مختصر في جواب من طعن في القرآن باختلاف عدّ آياته-بلال فيصل البحر-العراق-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى …وبعد:
فقد ورد إليَّ من البلاد البنغلادشية سؤال من بعض أهل السنة، ذكر فيه أنه ظهر ببلادهم أستاذ جامعي زعم أن القرآن قد زيد فيه ونقص منه، وأنه احتج على زعمه هذا باختلاف عدد آياته، وطلب مني هذا السائل تحرير جواب مختصر في نقض دعواه والرد عليه من جهة اختلاف عد آي القرآن، فحررتُ هذا المختصر في ذلك، وتبيين هاتيك المسالك، والله سبحانه المأمول، أن ينفع به السائل والمسؤول، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اعلم أن أهل العلم من أهل التفسير والقراءات وغيرهم، قد اعتنوا بعدّ آي القرآن العظيم، وأفردوا لذلك تصانيف فائقة، حتى وجد لكل أهل مصر من أمصار المسلمين التي عليها مدار فن القراءات، وكان بها القراء المعرفون، كتب اختصوا بها وصنفها قراؤهم في عدد آي القرآن عن قراء ذلك المصر المعين.
وقد ساق ذلك النديم في (فهرسته) وغيره، فمن ذلك لأهل المدينة كتاب إسماعيل بن أبي كثير المدني، ولأهل مكة كتاب (العدد) للخزاعي وغيره، ولأهل الكوفة كتاب حمزة الزيات، وكتاب الكسائي، ولأهل البصرة كتاب عاصم الجحدري، ولأهل الشام كتاب يحي بن الحارث الذماري.
وصنف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام كتاباً حافلاً في هذا الفن، وصنف أبو عبد الله محمد بن سفيان المقرئ القيرواني كتاب (اختلاف قراء الأمصار في عدد آي القرآن) ولمحمد بن يونس الإسكافي المتوفي ستة 411هـ تصنيف في عدد آي سور الفرآن، وصنف الإمام الإخباري محمد بن خلف بن حيان المعروف بوكيع صاحب (أخبار القضاة) مصنفاً في ذلك، ولأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني الإمام البارع في علوم الكتاب مصنفاً أسماه (البيان في عدد آي القرآن)، وللبرهان الجعبري فيه منظومة أسماها (حديقة الزهر في عد آي السور) ورأيت لبعض فضلاء اليمن المتأخرين رسالة أسماها (حسن المدد في علم العدد) وغير ذلك.
وذكر السخاوي أن عبيد الله بن محمد الناقط صنف كتاباً اعتمد فيه علي قياس رؤوس الآي، فما رآه موافقا للقياس عدّه وإلا تركه.
واعلم أن الخلاف بين علماء الأمصار وقرائهم في عد آي الكتاب واقع ماله من دافع، كما ذكر ذلك الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في (كتابه) فإنه قال: (هذا كتاب عدد آي القرآن وكلماته وحروفه، ومعرفة خموسه وعشوره، ومكيه ومدنيه، وبيان ما اختلف فيه أئمة أهل الحجاز والعراق من العدد والشام وما اتفقوا عليه منه) آهـ.
وقد قرر قاضي السنة ولسان الأمة الإمام أبو بكر بن الطيب الباقلاني طيب الله ثراه في كتابه الذي لا نظير له (الانتصار للقرآن) كما قال عنه الزركشي في (البحر المحيط): (ما أعجبه من كتاب، فقد أزال به الحائك عن صدور المرتابين).
قرر القاضي أن عدد سور القرآن ليس توقيفياً، ولم يأمر به النبي صلي الله عليه وآله وسلم أصحابه، ولا فرض عليهم علم عدد آي القرآن ومعرفته، ولكنه لم ينههم عن ذلك، وقد يجوز أن يكون ابتداء الاعتناء بذلك في عهده صلى الله عليه وآله وسلم للاستعانة بالعدد على الحفظ، وإنما لم يفرض عليهم ذلك لئلا يشتغلوا به عن الأهم من حفظ القرآن ومعرفة معانيه والعمل به، ولأجل ذلك وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم في عدد آي القرآن.
كما رواه يحي بن سعيد الأموي عن الأعمش عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: (تمارينا في سورة من القرآن، فقال بعضنا خمس وثلاثون، وقال بعضنا ست وثلاثون، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتغيَّر لونُه، وأسرَّ إلى علي عليه السلام شيئاً، فسألنا علياً ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال قال: (إن الله يأمركم أن تقرؤوا القرآن كما علمتموه).
وهذا الخبر قد أخرجه الحافظ أبو عمرو الداني بسنده في كتابه الذي صنفه في العدد، من طريق أحمد بن منيع الحافظ عن يحي بن سعيد الأموي به.
قال القاضي: (هذا الخبر يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بعد الآي، بل نهاهم عنه إذ ذاك، أو أطلقَه لهم ووكله إلى آرائهم وما يؤديه إليه اجتهادهم، إلا أنه فصل موضع آخر الآية، ليستعينوا بذلك على الحفظ ويقيدوه، ويدل أيضاً على أنهم كانوا يعدون عداً مختلفاً) أهـ.
ثم ذكر أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم أقرهم على هذا الاختلاف والاجتهاد في العدد، بتقدير أن عدَّهم إياه كان على عهده عليه السلام، ولا يلزم من كون فواصل الآي وبداياتها ونهاياتها معلومة، أن يعلمهم بعدد الآي؛ لأنه لو كان كذلك لنُقل الأمر به، ولأن في النص عليه تضييقاً عليهم وشغلاً لهم عن حفظ القرآن وعقل معانيه.
ولأن الخلاف في عدد الآي لا يضر، ولا يقدح في نص القرآن ولفظه زيادة ونقصاً، يعني المصحف الذي توفي عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والخلاف في عدد الآي لا يزيد في القرآن شيئاً ولا ينقص منه، فترْكُه إلى اجتهادهم فيه نوع تيسير عليهم وتخفيف وتوسعة، لطفا منه سبحانه ورحمة، ونظير هذا ترك النص على حكم كثير من الحوادث والنوازل وتوكيلها إلى اجتهادهم.
وقد يكون هذا هو مستند الجعبري في دعواه أن سبب اختلاف الصحابة في عدّ الآي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقف على رؤوسها ثم يصل للتمام، فيحسب من سمعه أنها ليست فاصلة، فإنه إنما أضطر إلى هذا، للتوفيق بين كون فواصل الآي توقيفياً، وبين الخلاف في عدد الآي.
ويساعده في ذلك رأي القاضي الذي تقدم، في أن عدد الآي اجتهاد لا توقيف فيه، وهذا متَّجه بتقدير صحة نظر القاضي ومذهبه.
لكن القاضي نوزع فيه ولم يُسلَّم له قوله، نازعه الإمام الحافظ أبو عمرو الداني، فذهب إلى أن عدد الآي توقيفي، واحتج بالأخبار الواردة في فضل قراءة الآيتين أو الأكثر.
وبأن عدد درج الجنة بعدد آي القرآن، فيرقى القارئ إلى منزلة في الجنة عند آخر آية يقرؤها كما ورد في الحديث، وساق آثاراً كثيرة عن بعض السلف في أنهم كانوا يعدُّون الآي في الصلاة، ويعقدون العدَّ بأصابعهم، منهم ابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة رضي الله عنهم.
ومن التابعين عروة وعمر الخليفة وعطاء وطاووس وابن أبي مُليكة وأبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي وعاصم المقرئ والحسن وابن سرين ومالك ابن دينار وثابت البُناني وكعب الأحبار وغيرهم، واحتج بأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة في تعيين عدد بعض السور كسورة تبارك والحمد وغيرهما.
وقد تبع العلمُ السخاويُّ أبا عمرو على هذا، لكنه ذكر أن سبب الخلاف في العدد يرجع إلى النقل والتوقيف، كأنه يريد اختلاف من بعد الصحابة الذي سببه اختلاف الصحابة في العدد، واحتج بنفس الخبر الذي احتج به القاضي عن ابن مسعود.
قال السخاوي: (في هذا دليل على أن العدد راجع إلى التعليم، وفيه أيضا دليل على تصويب العددين لمن تأمل بفهم) ذكره في (جمال القراء).
إلا أنه رحمه الله ذهب إلى أن الاشتغال بعدد الآي لا فائدة فيه قال: (لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن الزيادة والنقصان فيه، والقرآن لا يمكن ذلك فيه، على أن ما يمكن أن يزاد فيه وينقص منه، لا يفيد فيه حصر كلماته وحروفه، فقد تُبدل كلمة موضع أخرى، وحرف مكان حرف، والقرآن بحمد الله محفوظ من جميع ذلك(. هذا كلامه.
والتحقيق أن عدد الآي توقيفي كما قاله أبو عمرو الداني والسخاوي وغيرهما من أئمة القرآن وعلومه، لكن هذا التوقيف لم يحصر العدد ولا حصر الآي في عدد معين لا يجوز غيره، وإنما هو توقيف بالمعنى العام.
أعني أن الشارع شرعه لهم، ولم يكله إلى اجتهادهم واختراعهم، فليس هو من البدع المستحسنة، بل هو سنة لكنه يجري مجرى القراءات ويتبع وجوهها.
بمعنى أن الشارع كما وسع على الأمة فلم يحصر قراءة الكتاب العزيز في حرف واحد، وجعله في سبعة أحرف، كذلك لم يحصر العدد في عدد واحد لا يـُختلف فيه، بل عدَّ لهم وجوهاً من العدد متباينة توسعة لهم وتيسيراً عليهم، وهذا من معاني قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر).
فيكون سبب اختلاف السلف في عدد الآي، راجعاً إلى اختلاف وجوه القراءات، فكل يعد على حسب قراءته التي تلقاها من النبي صلي الله عليه وآله وسلم، وبالتالي فإنه تلقى العدد مقروناً معها.
فالخلاف في عدد الآي كالخلاف في وجوه قراءات الأحرف السبعة، وقد ألمع إلى هذا القول واختاره الإمام علم الدين السخاوي، وشيخ المقارئ المصرية محمد الحداد في كتاب (سعادة الدارين في عد آي معجز الثقلين) ولذا تجد الخلاف في العدد يسيراً، لا يساعد مدعي تحريف القرآن كالرافضة وغيرهم على دعواهم الكاذبة.
لأنهم يزعمون -قاتلهم الله- أن القرآن ينقص منه قدر الثُلثين، ويستندون إلى العدد والخلاف فيه، وهذا باطل ضرورة أن العلماء أجمعوا كما حكاه ابن الجوزي في (فنون الأفنان) والنووي وغيرهما على أن عدد آي الكتاب العزيز (6200) آية، ثم اختلفوا في الكسر؟ أي ما بعد المائتين.
فعدَّ المدنيون (6217) في الأول، و(6214) في الثاني، وعدَّ الشاميون عن الذماري (6226) و(6206)، وعدَّ ابن عباس (6216)، وعدَّ أهل الكوفة (6230)، وعدَّ أهل البصرة (6204) وغير ذلك.
ومن المجمعين أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولذا كان أبو القاسم المرتضى الموسوي عالم الشيعة يكفِّر من يقول إن القرآن زيد فيه ونقص منه، وقد ذكر أبو جعفر بن بابويه الملقب بالصدوق عند الإمامية أن آل البيت كلهم منزهون عن اعتقاد تحريف القرآن، واختار هو هذا، ذكره في كتابه الذي صنفه في الاعتقاد.
ولا يمكن لغير الروافض من المدعين تحريف القرآن، الاعتماد على العدد والخلاف فيه لتثبيت دعواهم الكاذبة، لأن العدد لم يؤثر كما هو الواقع في زيادة الآي أو نقصانها، لأن أحداً من العادين لم ينقص آية ولا زاد أخرى، وإنما خلافهم في عدِّ الآية واحدة أو شطرها إلى آيتين،كقوله تعالى: (حم عسق) فمنهم من عد (حم) آية و(عسق) آية ومنهم من جعلها آية واحدة، وهذا اختلاف صوري لا أثر له.
هذا وجه في الجواب عن هذا الإشكال، وفيه وجه آخر، وذلك أن الله عز وجل قال: (ما ننسخ من آية أو ننسها) الآية، وقد جعل الله تعالى الرفع من المصحف على قسمين:
أحدهما: النسخ، وهذا الذي يشترط فيه أن يأتي ببدل عن المنسوخ المرفوع من آي المصحف.
والثاني: الإنساء وهو نوع من الرفع المحض من آي المصحف، لا يشترط فيه أن يكون إلى بدل، وبهذا يظهر الجواب عن اختلاف الأصوليين في النسخ هل يشترط فيه البدل؟ وهو أحد الفروق بين الإنساء والنسخ.
وأيضا: فإن النسخ لا يكون إلا في الأحكام، ولا يقع في الأخبار، بخلاف الإنساء فإنه يدخل الأخبار كما وقع في (الصحيح) في قصة بئر معونة عن أنس، وفيه أنه نزل فيهم القرآن (بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) قال أنس: ثم إن ذلك رفع، ووقع في (كتاب مسلم) أن آية في كتاب الله رفعت (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا).. الخبر.
وإنما لا يكون الإنساء إلى بدل لأنه يقع غالباً في الأخبار، أو يكون في نظائره من آيات القرآن ما يغني عن معناه، أو يكون في السنة ما يغني عنه من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم كما في خبر مسلم الآنف عن أبي موسى رضي الله عنه.
وقد بسطت الكلام على الإنساء والفرق بينه وبين النسخ في كتاب (الرد على من أنكر النسخ في كتاب الله) الذي نقضت فيه ما جمعه عبد المتعال الجبري في كتابه الذي أنكر فيه النسخ، وتبعه عليه بعض المعاصرين، وكذا تكلمت عن ذلك في جزء جمعته في تفسير وإعراب الآية الواردة في البقرة عن الإنساء والنسخ. وبالله التوفيق
إذا تقرر هذا عُلم أن الخلاف في العدد واقع محقق لا إشكال فيه، لأن المصحف المحفوظ من النسخ والإنساء هو المصحف الذي كتبه الله بيده في اللوح المحفوظ، وتكلم به قديماً في الأزل.
ثم إنه أنزل منه ما شاء على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مفرقاً حسب الوقائع والأحداث، ينزله ويثبته النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المصحف، ثم يأمره الله تعالى برفع ما شاء ومحوه، وإثبات ما شاء كما قال تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي لا يتغير ولا يتبدل.
وفي الحديث الصحيح أن رجلاً كان قام من الليل يقرأ بآية ثم أصبح وقد نسيها، فمضى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره فقال له: (إن هذا مما أُنسي أو رُفع).
وفي (المستدرك) للحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى يرفع القرآن من المصاحف فلا يبقى فيه منه آية ولا في صدر رجل منه حرف، صححه الحاكم والذهبي.
وإذا علم هذا واستحضرت ما تقدم من أن الصحابة كانوا يعدُّون على عهده صلى الله عليه وآله وسلم زال الإشكال؛ لأنهم يعدون فيتلقى عدَّهم عنهم أصحابُهم، فإذا رُفعت الآية أسقطوها من العدد فيتلقاه عنهم غيرهم عدداً مغايراً لما تلقاه الأولون، وهكذا ينقل عنهم من بعدهم خلافاً وتغايراً وتبايناً في العدد.
لكن نفس المصحف الإمام الذي توفي عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجمعه أبو بكر ونسخه عثمان لا نقص فيه ولا زيادة، والعدد فيه مختلف في الآية الواحدة من حيث تشطيرها إلى شطرين كما مر في (حم عسق).
وهذا جواب آخر يزول به الإشكال، ويتبين فيه أن المصحف الإمام له عدد، وهذا العدد في الآي فيه اختلاف بين السلف لا يقدح ولا يضر فيه زيادة ونقصاً، فلا وجه للطعن فيه من هذا الباب، ولا يلتفت إلى الطاعن والحال هذه، لأن طعنه نفخة في رماد، وصيحة في واد، ولا أثر له فإنه ضرب في حديد بارد، وتخديش في الجلامد.
والمصحف الإمام انتسخه عثمان إلى سبعة مصاحف أو نُسخ، وبعث بها إلى الأمصار، وقيل خمسة نُسخ، ولذا ألف الإمام أبو بكر بن مجاهد كتابه الموسوم بـ (السبعة) وقد سبقه رجل يقال له ابن جبير المكي فصنف كتاباً وسمه بـ (الخمسة) جمع فيه قراءة خمسة من القراء من كل مصر، لأن المصاحف التي نسخها عثمان كانت فيما قيل خمسة ذكره الحافظ في (شرح البخاري).
وقد تقدم أن كل أهل مصر لهم عدد مختلف، وهذا يقتضي أن المصحف الإمام مختلف في العدد، بحسب اختلاف قراء الأمصار وقراءاتهم المروية.
والمصحف الإمام الذي بين أيدينا الآن أُخذ عددُهُ من الكوفيين، والعدد فيه (6236) آية اعتماداً على ما في (البيان) لأبي عمرو الداني و(ناظمة الزهر) للشاطبي.
وأما المغاربة من المالكية فكان ينبغي أن يتبعوا في عدِّ مصحفهم العدد المدني (6214) لكنهم آثروا العدد الكوفي فعدُّوا في مصحفهم المطبوع بالمغرب (6236) كالعدد الكوفي في المصحف برواية حفص عن عاصم، فتوافق العددان، عدد حفص وعدد ورش عن نافع من غير زيادة ولا نقصان في آية من آي القران.
وهذه حجة واضحة إذا تأملها المتأمل اندفع له بها الشبهة التي أوردها مدعو تحريف القران، اعتماداً على اختلاف السلف في عدد المصحف؛ لأنه لو كان العدد والخلاف فيه مؤثراً في النقص من الكتاب العزيز والزيادة عليه كما زعموا، لظهر هذا الفرق والأثر في عدد آي المصحف في الروايتين اللتين عليهما مدار القراءة في كافة أمصار المسلمين إلى عصرنا هذا، رواية عاصم ورواية نافع.
ولما لم يظهر أي أثر للزيادة والنقصان في عدد القراءتين مع اختلافهما في الكسر في العدد عند أسلافهم كما تقدم، عُلم أن الاختلاف صوري لا أثر له، وإنما هو من قبيل شطر الآية إلى آيتين، أو عدِّها آية واحدة كما مثَّلنا فيما تقدم بـ (حم عسق) وبالله الثقة.
وهكذا القول في عدد السيدة الصديقة عائشة بتقدير ثبوت العدد عنها؛ لأنه صح عنها وثبت أنها كانت تعد الآي، وتعقد بأصابعها المطهرة هذا العدد في صلاتها كما خرَّجه عنها الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في (البيان) لكن العدد المذكور عنها رضي الله عنها وهو (6666) في صحته نظر، ولم أقف عليه في شيء من مصنفات أهل الفن، والمحفوظ عنها أنها كانت تعدُّ فحسب، لكن لم يذكروا قدر العدد عنها.
وروى البيهقي عنها أن عدد درج الجنة بعدد آي القرءان، فالناقل لهذا العدد عنها مطالب بتصحيح النقل، ولعل الأستاذ أبا الليث السمرقندي رحمه الله وهو الإمام غير مدافع اطلع عليه في بعض التصانيف التي لم نقف عليها، ويبعد أن يكون ثابتاً عنها سنداً ولا يرويه أو يذكره أئمة الفن كأبي عمرو الداني ونحوه.
والأظهر أن عائشة تعدُّ كأهل المدينة، لأن أهل المدينة أخذوا جملة عددهم عن الصحابة الذين كانوا بها، كما أخذ أهل الكوفة عددهم عن علي عليه السلام، وأخذ أهل مكة عددهم عن ابن عباس رضوان الله عليه، لأنه كان يكون بمكة وهكذا.
وقد قال الحافظ أبو عمرو الداني: (هذه الأعداد وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة، فإن لها لا شك مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها من طريق الرواية والتوقيف، كعلمنا بمادة الحروف والاختلاف، إذ كان كل واحد منهم -يعني من التابعين- قد لقي غير واحد من الصحابة وشاهده وأخذ عنه وسمع منه، أو لقي من لقي من الصحابة، مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك واتباع) هذا كلامه.
وهو ظاهر فيما قلناه وتقدم تقريره، وهو من أهل الفن وأدرى به من أبي الليث الفقيه، ويبعد كل البعد أن يعرف أبو الليث أو يقف على رواية العدد عن أم المؤمنين، ولا يعرفه أو يقف عليه أهل الاختصاص، وقد تقرر في الأصول أن أهل كل فن أدرى بفنهم من غيرهم، فقولهم فيه مقدم على قول غيرهم، وأن إجماع أهل الفن مقدم وحجة، وقد سئل مالك عن البسملة فقال: سلوا نافعا المدني فكل فن يُسئل عنه أهله.
فإن قيل: يحتمل أن يكون أبو الليث اطلع على هذا العدد عن أم المؤمنين في كتاب من كتب العدد ككتاب أبي عبيد ونحوه، قيل يبعد كذلك أن يقف عليه ولا يقف عليه أهل المعرفة بهذا الشأن وهم له أطلب وأشد تحرياً من غيرهم، على أن الاحتمال الذي أبداه السائل في سؤاله وهو أن يكون العدد محرفاً عن (6226) متجه والله أعلم.
وقد ذكر أبو عمرو في كتابه ما يدل دلالة ظاهرة على أن المصحف الإمام العثماني اعتُني فيه بالعدد، وأن الصحابة ومن بعدهم تلقوه بالقبول وتداولوه، فروى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام أنه كان يعد من أول البقرة إلى (يكذبون) عشرة، وإلى (على كل شيء قدير) عشرين وإلى (ما لا تعلمون) ثلاثين وإلى (وإياي فارهبون) أربعين، وإلى (وأنتم تنظرون) خمسين وهكذا إلى قوله (بل أكثرهم لا يؤمنون) رأس مائة آية، وهذا هو العدد الموجود الآن في المصحف بلا ريب.
آخره والحمد لله أولا وآخرا باطنا وظاهرا وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه كثيرا آمين.
كتبه
أبو جعفر بلال فيصل البحر
القاهرة—1433هـ.