“مالك ابن نبي وتأملاته في ماهية الديمقراطية”-د.ليلى فيلالي
“مالك ابن نبي وتأملاته في ماهية الديمقراطية”
د.ليلى فيلالي
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية
مقدمة
يدعو المضمون المعقد للديمقراطية إلى مغامرة ديناميكية منفتحة على المستقبل تمكن من اختيار واعتماد تفكير عميق لتجاوز المصاعب التي تعترض بالتأكيد عملية توضيح مفهمي دقيق يستجيب لمتغيرات المكان والزمان والأصول المذهبية والفكرية. حيث كتب عن الديمقراطية الكثير من الكتاب والمفكرين العرب والمسلمين الذين عالجوا هذا المفهوم كل بحسب توجهه وغايته، ومنهم من أراد التدليل على أن الديمقراطية غريبة عن الإسلام وأنها ليست من منظومته العقدية والفكرية، وفي المقابل كان هناك من جعلها من صميم الإسلام، معتبرا إياها حجر الأساس فيه كون الإنسان ولد حرا ويجب أن ينعم بحريته التي توفرها له الديمقراطية. ولكن القليل من عالج الموضوع برزانة وتروي وعمق في التحليل والغوص وراء المصطلح.
لقد كان مالك بن نبي مفكرا حاول دراسة مشكلات أمته ووضع حلولا لها مع الاحتفاظ بهويتها وأصالتها، و عليه فنحن نريد أن نبرز كيف نظر الأستاذ مالك بن نبي للديمقراطية و كيف عالجها، فهل يتجانس الطرح الديموقراطي مع الأسس الإسلامية وما علاقة الإسلام بالديمقراطية؟ وكان مالك بن نبي واحداً من المفكرين السبَّاقين لمحاولة الإجابة على هذا السؤال من خلال كتاباته المتعددة وبخاصة المحاضرة التي ألقاها في نادي الطلبة المغاربة في سوريا سنة 1960م، هذه المحاضرة التي حاول فيها إبراز الموقف الإسلامي من الديموقراطية في وقت لم يكن الموقف منها متبلوراً بالقدر الكافي داخل الوسط الإسلامي.
أولا: ماهية الديمقراطية في فكر ابن نبي:
- الإشكالية الاصطلاحية للديمقراطية والإسلام:
أراد مالك بن نبي أن ينقل منهجية التيار الإسلامي في التفكير و التعامل مع المصطلحات الوافدة على الفكر الإسلامي فبدأ في تتبع تعريف كلا من الديمقراطية و الإسلام لنرى مقدار المسافة التي تفصل بينهما من الناحية التاريخية و من الناحية الجغرافية، أي المنشأ، ويقول في محاضرته التي سنتعمد عليها “الديمقراطية في الإسلام”:”..و عليه يجب في خطواتنا الأولى أن نوضح و أن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام ؟ وما هي الديمقراطية؟” ([1])
يلاحظ بن نبي من خلال دراسته لمفهومي الإسلام والديمقراطية أن أمم الغرب بحكم اتصالنا بها في عهد الاستعمار واليوم قد فرضت علينا بعض عاداتها، ومفاهيمها، ومصطلحاتها، وأسلوب حياتها حتى أصبحنا نضم إلى الإسلام كل ما نعتقد أنّه ذو قيمة حضارية، دون تمحيص ولا تحقيق لدرجتها من الصحة، واتفاقها مع جوهر شخصيتنا وفلسفة حضارتنا،ولاننظر فيمايربط ذلك بالإسلام أوينزه عنه،وأصبحتهذهالمفاهيم المتصلة بحياة العالمالغربي،وبتجربتهالتاريخية مقبولة لدينا،نقيس بها واقعنا الاجتماعي.
ويرى مالك بن نبي أن ” مشكلة الربط بين هذين المصطلحين، هي المشكلة الأساسية في الموضوع”([2]) لذلك لابد من تعريف كليهما، قبل دراسة مسألة الترابط بينهما، فيبدأ في بيان وقت دخول هذين المصطلحين في اللغة، بم تحمله من معان خاصة، لأنه يرى أن كل مصطلح كان في أي وقت ماهو إلا كلمة محدثة لها ظروفها الخاصة بها واتفاق بين واضعي ذلك المصطلح. ([3])
ويستهل بن نبي دراسته مبينا قلة معرفته بمصطلح الديمقراطية من حيث وقت دخول مثل هذه المصطلحات في اللغة العربية بما تحمله من دلالات خاصة بوصفها كلمات دخيلة ومستوردة، أي لابد من معرفة وقت حدوثها زمنيا، ضمن لغتها الخاصة، وضمن اللغة المنقولة إليها،فيقول: «.. إنما نعرف أنه من صيغ اللغة اليونانية قبل عصر (بريكلاس) ، إذ أن المؤرخ (توسديد) يذكره على لسان هذا القيصر في إحدى خطبه الموجهة إلى شعب أثينا ، أي منذ خمسة قرون قبل الميلاد ..»([4]) ثم يأخذ في بيان الديمقراطية من ناحية الاشتقاق اللغوي قائلا:” إن أي قاموس اشتقاق في اللغة الفرنسية، يدلنا على أن الكلمة مركبة من مفردتين يونانيتين هما “ديموس”و “كراتس” وتعني سلطة الشعب، أو سلطة الجماهير أي بتعبير تحليلي موجز تعني سلطة الإنسان”.([5])
أما بالنسبة للإسلام فإن بن نبي يرى أنه مصطلح درج في اللغة العربية وهو يعرف بالضبط متى حدث قائلا: «إننا نعرف بالضبط متى حدثت كلمة “إسلام ” في اللغة العربية ومعناها الدارج، إنها لا شك من ابتكار القرآن الكريم». ([6])
وبعد استعراض مالك بن نبي لتاريخ المصطلح بيّن أن الصلة بين الديمقراطية والإسلام مفقودة بالنسبة للزمان والمكان، فلا ترابط بينهما من الناحية التاريخية ولا من الناحية الجغرافية وربما أدّى هذا البعد بينهما إلى القول بأنه لا ديمقراطية في الإسلام.
إن مالكا في دراسته للإسلام و الديموقراطية لم يتعمد منهج المقارنة بين النصوص، أي بين نص منبعه الوحي و نص آخر نسخه العقل البشري والتجارب الإنسانية ما صلح منها و ما طلح، ولكن اهتمامه انصرف إلى وظيفتهما الاجتماعية ( السوسيولوجية) و البنائية، ولذلك تجده يرجع كل مصطلح إلى بعده ( الزمكاني)، أي إلى مرجعيته الأصلية باحثا عن روحه التي برزت أو تطورت عبر التاريخ لا يسقط في الأحكام القيمية الاعتباطية. ([7])
ويرى ابن نبي أنه يجب حفر سبيل أخرى تمكننا من مواصلة البحث لإيجاد العلاقة التي يمكن أن تكون غير ظاهرة في بادئ الأمر، وهي سبيل تنحرف بنا عن المناقضة التي واجهت الأستاذ، ولا يمكن ذلك إلا بإعادة تعريف الديمقراطية بدون ربطها مسبقا بمفهوم آخر، ولذلك يقترح ابن نبي تعريفها في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق. ([8])
فقد نبه بن نبي، وهو يتحدث عن الديمقراطية في بداية الستينيات، إلى أننا لا ينبغي أن نتعامل مع الديمقراطية انطلاقا من المفهوم اللغوي الذي تطرحه القواميس الغربية، لأن المفهوم في هذا المستوى مشبع بروح التجربة الغربية أو الفرنسية على وجه الخصوص، فنحن حينما نقول الديمقراطية هي حكم الشعب أو سلطة الشعب أو الإنسان فهذا التحديد اللغوي مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية.
فقد يؤدي تعريف مفهومي الإسلام و الديمقراطية بالطريقة التقليدية إلى استنتاج عدم وجود علاقة بينهما من حيث التاريخ والجغرافيا، منبهاً في ذات الوقت إلى أن تفكيك المصطلح في معزل عن محموله التاريخي وإعادة تعريف الديمقراطية في أبسط أشكالها تحريراً من القيود اللغوية والأيديولوجية قد يوصل إلى استنتاج مختلف.
- جوهر الديمقراطية عند مالك بن نبي:
لئن كان المستوى اللغوي في تحديد المفهوم لا يفي بالغرض، فإن بن نبي يضع أمامنا مستوى آخر يراه كفيلا بإثراء النقاش وجعل المقارنة بين (الديمقراطية) و(الإسلام) أمرا ممكنا. هذا المستوى -كما أشرنا من قبل -يتمثل في تجاوز التحديد اللغوي وعدم جعل المصطلح الثاني مقياسا للأول، وإنما علينا أن نتعامل مع كل مصطلح بشكل مجرد، في إطاره العام دون تحديد مسبق.
فيعزز فهذا الإجراء من موضوعية الباحث ويمكنه من الوصول إلى حقيقة (المفهوم)، دون أن يقف التحديد اللغوي المرتبط بزمان النشأة ومكانها، حائلا بينه وبين مبتغاه، ودون أن يجعله التحديد المسبق يقفز على الحقيقة إما بالرفض وإما بالتأويل وإما بالتلفيق، وهي آليات المنظومات الفكرية المغلقة التي لا تكاد تفتح في بنيانها نافذة لشعاع آخر يأتيها من الخارج. ([9])
وبناء على ذلك، فالديمقراطية لا يمكن اختصارها في عبارة (سلطة الشعب/الإنسان)، وإنما ينظر إلى جوهرها الذي يتحدد من خلال ثلاثة وجوه، هي: ([10])
- الديمقراطية كشعور نحو (الأنا)
- الديمقراطية كشعور نحو (الآخرين)
- الديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد.
و تعد هذه العموميات بحق الركائز الذاتية الخاصة بالفرد، و الموضوعية التي تشكل الشعور الديمقراطي، فالواقع السياسي الديمقراطي يقوم على مقدار تمكن هذا الشعور في شخصية الفرد و في تقاليد البلد «…فلا يمكن أن تحقق الديمقراطية واقعا سياسيا إن لم تكن شروطها متوافرة في بناء الشخصية و في العادات و التقاليد القائمة في البلد ».([11])
ثانيا: البديل الإسلامي للنموذج الديمقراطي الغربي:
رغم انتقاد مالك بن نبي للنموذج العلماني من الديمقراطية وإبرازه لما فيه من سلبيات، إلا أنه سعى إلى التأكيد على أن”الإسلام بمعارضته الاستبداد وتحريره للإنسان فإنه ينمي الشعور الديمقراطي،ولذلك فإن بالإمكان التوصل إلى نظام ديمقراطي إسلامي يجمع محاسن الديمقراطية ويتجنب مثالب العلمانية. ويرى أن الجواب على سؤال هل توجد ديمقراطية في الإسلام لا يتعلق ضرورة بنصف قهي مستنبط من السنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام الذي لا يسوغ أن يعتبر مجرد دستور يعلن سيادة شعب معين،ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب،بل ينبغي أن يعتبر مشروعاً ديمقراطياً تفرزه الممارسة،وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه بينما يسير في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية”.([12])
ومنه فإن الفصل بين الدين والدولة أو العلمانية لن يكون سياسة ناجِحة؛ لأنها لا تستند إلى ما من شأنه أن يغرس في نفسية الفرد والمواطن القابلية والاستعداد للتضحية والبطولة والإيثار، كما يقرِّر مالك بن نبي أن التجانسَّ بين عمل الدولة وعمل الفرد ينبغي أن يقوم وجوبًا على عامل أخلاقي؛ لأن السياسة بلا أخلاق خرابٌ للأمة.
فقد اعتبر مالك بن نبي أن الحرية هو المقياس العام، الذي يقاس بها كون المبدأ ديمقراطي أم لا، لذلك أراد أن يضفي على الإسلام مفهوم الحرية، لكي يصل من خلالها إلى توضيح أن الإسلام ديمقراطي فيذكر أدلة من الحديث الشريف يعتبرها تدل على الديمقراطية الاجتماعية، عن عبد الله ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه. ([13])
ويؤكد ابن نبي أن الديمقراطية «ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور»([14]) ، ثم يأخذ في الاستدلال على ذلك بذكر أن إنجلترا ديمقراطية دون وجود نص دستوري خاص بها، وقد يأتي جبار فيلغي الدستور مثل نابوليون، ولكن الديمقراطية لا تفقد معناها لأنها مرتبطة بشعور وبعادات وتقاليد، وانفعالات ومقاييس ذاتية وموضوعية تشكل في مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، في ضمير شعب قبل أن ينص عليها أي دستور. وعلى ذلك فإنه يرى أن الحرية والقيم والانفعالات والمقاييس موجودة في الإسلام ولذلك يقرر قائلا: “منذ الآن متاح لنا التقرير بشرعية الحديث عن الديمقراطية في الإسلام. ([15])
و يشير مالك بن نبي إلى الضعف الذي يصيب النماذج الديمقراطية في البلاد الغربية ، أو حتى تلك التي تستورد بدون مراعاة القيم الداخلية للمجتمع المنقولة إليه ، هذا الضعف الذي يتمثل في عدم الموافقة بين الديمقراطية السياسية و الاجتماعية في المجتمع، ففي أغلب هذه النماذج نجد أن خللا ما يتطرق إليها ليغلب أحدهما على الآخر، ليجد الفرد الذي يتمتع بالديمقراطية السياسة مقهورا بوجه من الوجوه في الناحية الاجتماعية و العكس، و لكن الأستاذ مالك يرى أن الإسلام استطاع أن يتجاوز هذا الضعف، و يسد هذه الثغرة بالموازنة الدقيقة بين النوعين «و عليه فإن الإسلام يبدو و كأنه جمع موقف بين مزايا الديمقراطية السياسية و الديمقراطية الاجتماعية ». ([16])
ويخلص بن نبي إلى أن في الإسلام ديمقراطية لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية –وفقدت فيه إشعاعها كما هو شأنها اليوم بصورة عامة،ولكن في زمن تخلقها ونموها –في المجتمع ولقد كان تحليل بن نبي ثورياً في زمنه لأن التوجه العام لدى منتسبي التيارات الإسلامية في العالم العربي الذين اعتبروا الديمقراطية نقيضاً للإسلام. ([17])
خاتمة
إن الديمقراطية لا يمكن أن تُستنسخ آليا، وإنما هي مشروع حضاري متكامل يمس الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فمن الخطأ أن نتصور أن مصطلحا ما هو مجرد لفظة يمكن استيرادها و تطبيقها، لأن المصطلح كائن حي له تاريخ وله تكوين يؤثران فيه،فقد لا يعطي ناتجا إذا انتقل من الأرض التي نشأ فيها إلى أرض أخرى.كما أنها ليست بديلا عن الإسلام، بل الإسلام في جوهره يضع الأسس السليمة لنموذج ديمقراطي، أساسه الإنسان المكرم، الذي تحفظ وتصان حقوقه الاجتماعية و حقوقه السياسية.
وقد آثر مالك بن نبي ألا يشتغل بالسياسة كأكاديمي أو تنفيذي، وانصرف إلى إصلاح أعطاب العقل والفكر وبناء مشاريع النهوض الثقافي، وعيا منه بأن السياسة الصحيحة تتأسس على الفكر السليم، ونظر إليها من زاوية التغيير الحضاري والعمق الفلسفي والبعد الفكري المجرد. ومن هنا كان اشتغاله بالأفكار السياسية الكبرى-منها الديمقرطية- التي تؤسس لرؤية سياسية ناجعة، يمكن أن تترجم، إن وجدت رجال سياسة أكفاء، إلى مشاريع نهضوية واقعية.
([1]) – مالك بن نبي ، تأملات ، دار الفكر، سورية-دمشق-،ط5، 1991، ص66.
([7]) – فضيلبومالة، “ مفهوم الديموقراطية في فكر مالك بن نبي”، مقالات بالعربية،27/08/ 2012
http://www.binnabi.net/infos/detail/KWi78Y12OvKWi78/، تاريخ الزيارة: 13/ 05/2016.
([8]) – مالك بن نبي ، تأملات ، مرجع سابق، ص67.
([9]) – عمر عبيد حسنة، “الديمقراطية عند مالك بن نبي : من الاستنساخ الآلي إلى تحقيق الشروط الموضوعية” ،
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=1&ChapterId=4&BookId=2032&CatId=201&startno=0، تاريخ الزيارة: 18/05/2016.
([10]) – مالك بن نبي ، تأملات ، مرجع سابق ، ص67.
([12]) – مالكبننبي،القضاياالكبرى،دارالفكرالعربي المعاصر،بيروت9911، 133-164.
([13]) – مالك بن نبي ، تأملات ، مرجع سابق ، ص71.
([15]) – حسن موسى محمد العقبي،” مالك بن نبي وموقفه من القضايا الفكرية المعاصرة”، رسالة ماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة، كلية أصول الدين، جامعة غزة ،2005 نسخةpdf ، ص133 .
([16]) – مالك بن نبي، تأملات مرجع سابق، ص88 .
([17])–أماني محمود عبد الله،”التغير الاجتماعي في الإسلام:بين النظرية والتطبيق”، مرجع سابق، ص189-190.