كيفية التعامل مع التراث الاسلامي
لما انطلقت الحضارة الإسلامية في صدرها الأول تفتق رتق الوجود وتشق آفاق الحياة، كانت مشدودة بوجهة عظيمة وغاية سامية، ومدفوعة بقوة من الإيمان واليقين المتصل بالله تعالى، وخلف تلك الانطلاقة وقود من الثقافة الموصولة الحبل بالمنبع الأول الكتاب والسنة.
والجيل الأول لما امتلك زمام العالم واقتاده طوعا، كان محط الاهتمام من غيره من الأجناس، وكانت ثقافته وتراثه أحق الثقافات بالإعجاب والاحتفاء والتقليد، وقد امتد سلطان هذه الثقافة أمدا من الزمن، ثم فقدت تلك الانطلاقة قوتها واندفاعها، وفقد ذلك الوهج ألقه، فتعثرت الخطى وتشتت النظر للوجهة المنشودة، فأخذ المسلمون يهبطون من تحليقهم رويدا رويدا حتى صاروا يدبون على الأرض بعدما كان يحلقون في الجو، في وقت صار غيرهم يصعد ويعلو وينطلق في سرعة عجيبة.
لذلك كان لزاما علينا إعادة النظر في أسباب هذا الهبوط وهذه الانتكاسات، ووجب ضخ دماء جديدة في الجسد المهزول ليعود إليه النشاط ويواصل انطلاقته ووثباته العتيدة، والتراث الإسلامي مما يجب إعادة النظر فيه، فتراثنا هو خزان هائل من الأفكار إما الصحيحة الحية، أو المعتلة أو الميتة، ولا يمكن إقامة العقل المسلم اليوم وفق التناقضات الفكرية أو العاهات النفسية، ولا نقصد بإعادة النظر في التراث إلغاء جميع الموروثات الفكرية وطرحها جانبا، أو أن التراث القديم كله غير مؤهل لبناء العقل المسلم واقتياده من أجل بناء الصرح المعرفي المعاصر، بل المقصود هو الغربلة والتمحيص من أجل التخلص من المعوقات الموروثة التي شلت حركة الفكر أعصارا طويلة وأفقدته الحركة والإبداع مدة من الزمن، فالفكر القاتل الذي تغلب على العقل المسلم هو الواجب التخلص منه، إذ أنه يشكل جزءا كبيرا من تراثنا القديم الذي وصلنا، ففي عصر موت الإبداع وأفول الأفكار ولد التقليد وراجت سوق الأصنام الفكرية.
وهذا الجزء المظلم من تاريخنا هو الذي امتدت آثاره حقبا طويلة ووصلتنا آثاره فاكتوينا منها أيما اكتواء، فكان من العقل طرح هذا التراث وطي صفحته، فالأفكار الميتة التي لم تعد لها فاعلية في زمن غير زمانها يجب تنقيتها وتنحيتها من وسط ركام التراث الفكري الموروث، وإلا صارت كالدواء المنتهي الصلاحية الذي يفتك بالجسد ويغذي الأدواء فيه، أما التراث الذي فتح للحضارة الإسلامية أيام ازدهارها أبوابا على الرقي والإبداع فهو تراث يجب الاحتفاء به واستجلابه لفاعليته المنشودة، فالفكر الحي النابض بالحيوية والذي يعيد للعقل نشاطه ومن ثم تأهيله للدور الحضاري فكر يجب إحياؤه مرة أخرى ليكون وقودا فاعلا في النهضة الحضارية مرة أخرى.
إن التراث غير مقدس ولا يجب أن يكون كذلك، فالتراث يمثل تراكمات جهود بشرية انتفت عنها العصمة والصواب المطلق، فتقديس الأفكار بدعوى شرف الزمان الذي ولدت فيه ضرب من الجنون المعرفي والفكري، والكثير من الأفكار التي توارثناها على أنها مسلمات ومنطلقات في التفكير هي في الحقيقة جهود بشرية اعتراها الخطأ والصواب.
ومما ابتليت به الأمة اليوم في تقديس التراث، التعلق بفروع الفقه المبثوثة في بطون الكتب القديمة من غير تمحيص ولا تدليل، لذلك وجب إعادة النظر في تفسير النصوص الجزئية والأحكام الفرعية وفق المقاصد الكبرى والفقه العام للشريعة الإسلامية، وذلك أن أي انفلات جزئي لفرع فقهي أو فهم نصي مغلف بدليل شرعي جزئي ظني قد يحدث ازورارا عن الدين وتذبذبا في العقيدة، وميلادا لمذهب الشك وفكرة التناقض والتهافت في النصوص والأحكام.
فالتفسير مثلا من العلوم التي أرى أن توجه الجهود إليه وإعادة بث روح الحياة فيه، فتراث التفسير اليوم لم يعد يحيص الشق ويشبع النهمة، إن القرآن كلام الله المحفوظ الذي لا يجب أن نحيد عنه، وأما التفسير فهو جهد بشري لبيان مراد الله تعالى من كلامه، وتقريب للمعاني التي تعجز عنها الأفهام القاصرة، وتجلية للغامض منها حتى يكون نفاذها للقلوب أجدى، والجهد البشري لاشك أن النقص يعتريه، وأن الصواب والخطأ يتخللانه، والصواب لا يستمد كرامته من صاحبه بل من الحق الذي يكتنفه، وجهود الرجال الذين مضوا في هذا الفن جليلة ومشكورة، بيد أن تلك الجهود لا تكفي وحدها لتسد هذا الباب الكبير على مر الأعصار، بل لابد من تظافر الجهود في كل عصر بحسب احتياج عقول كل عصر.
لذلك من أولى الأولويات إعادة صياغة علم التفسير في قالب معاصر يواكب ثقافة العصر، ولسنا نقصد بذلك تطويع نصوص القرآن لثقافة العصر، ولكن بيان مراد الله من كلامه بلغة الناس التي يفهمون، وخطابهم بالكلام الذي يعرفون، وأيضا يجب تلافي المثالب التي وقعت في هذا العلم قديما، وتجاوز الزلات والمغالط التي اقترفت سابقا، وقد وقفت على كلام جليل لابن خلدون في ذلك فقال: ( وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، فإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم، مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، في أمثال هذه الأغراض، أخباراً موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات. وأصلها كما قلناه عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ )[1].
ولعل مما نحتاجه اليوم هو التفسير القائم بيان المعاني القرآنية مجردة عن كل صبغة فقهية أو عقدية أو أصولية أو فكرية، فمجرد بيان المعاني وتقريبها لذهن المتلقي من غير ملابسة لما ذكرناه من صنوف العلوم، يجعل المعاني أكثر نفاذا للقلوب، وبذلك يأخذ الوحي طريقه إلى النفوس، وتتربع معانيه في الأعماق، وتسري أنواره في الشرايين، ولا يكون ذلك مجرد ترجيع لصدى الحروف والكلمات في الصدور بعد أن ترددها الأفواه.
وكذلك علم العقيدة وجب تنقيته وإعادته لصورته الأولى النقية ومنبعه الصافي، بعد أن اختلط في عصر من الأعصار بعلم الكلام والفكر اليوناني فاصطبغ به بل وصار من لوازمه، ففي عصر الترف العقلي والتخمة الفكرية نبتت أفكار وشاعت مذاهب مقطوعة الأحبال عن ماهية العقيدة الأصيلة، فبعد أن كانت العقيدة تٌعنى بإجلاء الغمام عن الحقيقة الكبرى وماهية التوحيد، وواجب المخلوق تجاه الخالق إدراكا وعملا، صارت إقحاما لقضايا فرعية لا تعدو كونها اختلافات لفظية، حتى غدت كثير من مسائل العقيدة أمورا مضحكة، فالخلاف بين من المعتزلة وأهل السنة حول السحر وحول تكون السحب أقحم في العقيدة إقحاما سخيفا جعل مباحث العقيدة الأصيلة تتطامن أمام هذه المسائل الخفيفة التي كان بالإمكان ملء فراغ المجالس بها في وقت من الأوقات ثم دفنها في مكانها بعد الانصراف، لكن للأسف صارت قضايا شغلت العقل المسلم أحقابا مديدة وأورثت خلافات شرسة بين أبناء الأمة.
والنزاع الذي حدث بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الصحابة في أمر الخلافة شق عصا المسلمين عصورا طويلة وفصم عروة وحدتهم فأحالهم قطعانا متشاكسة متنافرة، فلماذا يتم إقحام هذه الأمور في شؤون العقيدة؟ وما فائدة نفخ روح الحياة فيها في كل عصر وإيقاد جذوة الخلافات القديمة، ليتحول واقعنا إلى حلبة صراع لأجل قضايا ماتت منذ دهور.
لماذا لا تبقى هذه الأحداث في مسارها الأصيل وهو مسار التاريخ والذكريات الغابرة، التي تُدرس من أجل العبرة وأخذ العظات واستجلاء الطريق؟ ما دخل الإيمان بالله إذا أصاب أحد وأخطأ الآخر؟ إن التاريخ للعبرة وليس لإحياء خلافاته في الحاضر ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) [ البقرة 134].
فالأمة التي تلوك ماضيها وتسعر منه خلافات حاضرها، أمة لن تعيش مستقبلها كما تريد، بل ستعيشه كما أراده أهل الماضي.
ثم تسللت إلى علم العقيدة قضايا فلسفية لا معنى من تسويد الصحائف بها أو إشغال العوام بشأها، فقضية التخيير والتسيير عند المخلوق أورثت الكسل والخور في العزيمة، وذلك لما ترجح لدى الناس أنهم مسيرون غير مخيرين وأن لا طائل من تحركهم وعملهم، وقضية هل العمل مشروط وضروري في الإيمان أم أنه كمال فيه؟ فنشأ جيل زائغ المنهج طائش التصرف، يحسب نقاء القلب وصفاء السريرة تغني عن العمل، وأن الإيمان محض التصديق من غير عمل.
هذه نماذج مما أدرجه القدامى في علم العقيدة فورثناه كابرا عن كابر ورفضنا تخليص العقيدة منه، ومن العجب أننا نجد مسألة كالمسح على الخفين بين أطواء كتب العقيدة، إنها مسائل أطاحت بمكانة كتب علم التوحيد وجعلت الناس ينفرون منها، فحين تستقر هذه الرواسب في أذهان الناس وتتربع على عقولهم فإنها ستوجه سلوكهم وفقها، وبذلك ينشأ لدينا جيل مشدود الوجهة إلى الغرائب من الأفعال، والشذوذ من التصرفات.
إن الكثير من مباحث علم العقيدة التي لا صلة لها بالعقيدة من قبيل أو دبير، وجب اجتثاثها وتخليصها منه، ولصوق هذه الخسائس في فكر المجتمع الإسلامي ولدت أفعالا وتصرفات أزرت بالمسلم وأبعدته عن الإسلام الذي خلفه له نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن التراث الإسلامي وجب إعادة النظر في كثير من مواضيعه التي تحتاج ذلك، وإعادة النظر لا يعني إلغاءه ولا طرحه كله، فمن المعلوم أن الزمن يطوي كثيرا من الأفكار ويلغي كثيرا من النظريات، لذلك من الإنصاف أن يتم تهذيب التراث وتمحيصه وفق مقتضيات الفكر المعاصر مع الإبقاء على الصائب منه والمتناسب مع مقتضيات العصر.
[1] ـ ابن خلدون، المقدمة، ص409.