حصريا

قصة”النَّساب مؤسس اللوغاريتم”-أ. أماني هراوة- الجزائر-

0 472

في إحدى سنوات القرن السادس عشرميلادي، أقبل إلى أرض مكة لأداء فريضة الحج، كان مثقل الهمّ مُفْرِط التّفكير؛ مشكلة عويصة، أثقلت كاهله عجز عن حلّها كلّ من عرضها عليه، حتى أنه شعر أن بصيص الأمل من وجود حلّ لمسألة كهذه بدأ يضمحلّ، فقد استصعبها كلّ من في الهند من كبار العلماء وطالبي العلم،يمشي في شوارع مكّة الّتي تبعث الرّاحة والسّكينة في روح المسلم يريح فكره، فاعترض طريقه أحد المارّين عليه، قد رأى شروده وتيهان أفكاره، فخاطبه قائلا: مالي أراك تائه الفكر يا أخي في الله؟ بُح بما يثقلك عَلِّي أستطيع أن أساعدك، فأجابه الحاج الهندي بعد أن أفاقه صوت الرّجل من شروده:إن مشكلتي لم يقدر عليها أكبر علماء بلادي، فما أظنّك قادرا عليها يا صاحبي. وجواب الهندي ما زاد الرّجل إلّا فضولا حول هذي المعضلة شبه المستحيلة كما زعم، فردّ عليه وعيناه تتلألآن فضولا قد فضحته: اطرحها عليّ،وما أدراك علّك تجد جوابها عندي.
وبما أنه لا ضير في إخباره، فلا بأس من إشباع فضوله، هذا ما دار في ذهن الحاج الهندي؛إذ أنه علم أن استفساره حول مشكلته فضولا ليس إلا. فأجابه: حسنا سأطلعك عليها:توفي والدي منذ فترة ليست بطويلة، وقد ترك لنا نحن أولاده التّسعة 81 نخلة؛ تعطي النّخلة الأولى رطلا واحدا من التّمر في السّنة، والثّانية تعطي رطلين، والثالثة تعطي ثلاثة أرطال، والرابعة أربعة(4)،وهكذا إلى النخلة الواحدة والثمانين والتي تعطي 81 رطلا، رفع عينيه للرّجل فوجده يصغي بانتباه شديد لما يرويه له، فواصل سرد قصته: وقد ترك وصيّة مفادها أن يُعطي كل ابن 9 نخلات، بشرط أن يكون جميعنا نحن الإخوة متساوون في عدد الأرطال التي يحصلون عليها من هذه النخيل، فكيف يمكننا تقسيم النّخل بحيث يجني كلّ واحد منّا نفس النّصيب من التّمر؟ هذه هي مشكلتي فما رأيك يا أخي؟ مسح الرجل بيده على ذقنه حائرا مفكرا ، فقد حيّرته قصّة المغترب وأيقن صعوبة حلها، فأنبس قائلا: والله ما أخبرتني به محير وصعب بحق،فأطرق الحاج رأسه بائسا، ثم ما لبث أن أضاف الرجل قائلا : لكن أظن أنّي أعلم من يساعدك، وستجد ضالّتك عنده إن شاء الله.شقّت ابتسامة وجه المغترب من بعد كلام الرّجل، فقال متلهّفا: أخبرني بما عندك ياأخي، فقد شوقتني حول ما ستقول. فرد الرجل: ضالّتك عند النّساب.أنبس الهنديّ: دلّني على النساب هذا وأكون لك شاكرا.
ذهب به الى النّساب ثم انصرف الرجل إلى حال سبيله. التقى الحاج بالنّساب، وبعد سلام وكلام، ترحيب وإكرام،حاوره قائلا: إني أواجه معضلة، عجز عن حلّها علماء الهند، فدلّني عليك أُناس خيرٍ قائلين أن حلها عندك، وانّي أراك فهيما حكيما، فأرجو أن ضالتي بين كفيك. استغرب النساب، فردّ عليه مستفسرا حول مشكلته: هاتِ ما عندك، لعلّ ما رزقني اللّه به من علم قادر على مساعدتك، وما أُوظّفه إلّا لمساعدة الناس،فاستأنف الهندي سرد مشكلة الواحد والثمانين نخلة، أطرق النّساب يفكر ثم توصل الى حلّ طريف، فأخد يملي على الهندي ما توصّل له:قد وضعت جدولا قسّمت فيه النّخيل بالتّتابع الى تسع مجموعات؛ كل مجموعة تحوي 9 نخلات، بحيث تشمل المجموعة الأولى النّخيل من النخلة رقم 1الي النخلة رقم 9، والمجموعة الثانية فتحوي من النّخلة 10 الى النّخلة 18، وهكذا مع حرصنا على ترتيب النّخلات في كل مجموعة من الأصغر الى الأكبر وفي كل مجموعة نعطي النّخيل أرقاما من 0 الى 8 مرتّبة تصاعديا أو تنازليا. وبذلك نعطي لكل واحد منكم أنتم الاخوة نخلة من كل مجموعة بحيث لايأخذ أي واحد منكم نخلتان أو أكثر، لهما نفس التّرتيب، هلّل الهندي فرحا بإيجاد الحل الذي كان على وشك فقدان الأمل من الوصول له، وعاد الدّيار حاملا معه الحل.
ولكن بقي الذي لا يزال فضولنا متعطّشا لمعرفة هوّية النّساب، أسئلة كثيرة تراودنا بعد الذي سبق، أسئلة نختصرها في: من هو النّساب؟ ولماذا يطلق عليه بهذا اللقب؟
انتشرت قصة الهندي ومسألته التي وقف الكثير عاجزين أمامها، وكيف أن النسّاب استطاع حلها والتي أطلق عليها المسألة المكّية، ووصلت إلى الوالي العثماني بمكّة، فأعجب به، وسأل عنه أحد أعوانه ساعيا إلى معرفة هذا المدعوّ بالنّساب، فأخذ يروي له ما توصل إليه من معلومات قائلا: جئتك يا سيدي بما أمرتني.
“إن النّساب هو عالم رياضيات، عرف بالنزاهة العلمية وبأمنه وصدقه في كتاباته ونقله، يعترف بذلك بجميل كل من نقل عنهم معلوماتهم وبحوثهم،لذلك أطلق عليه النَّساب يا مولاي، لأنه ينسب كل معلومة الى صاحبها -وهذا بعكس ما هو يجري عند علماء الغرب في وقتنا هذا- إلا أن اسمه الكامل هو علي بن ولي بن حمزة المغربي، وهو جزائري الأصل، من أب جزائري وأم تركية، ولد سنة 1500 م، كما أنه يا مولاي حافظ للقرآن والحديث،انتقل في عمر العشرين الى تركيا وبالتحديد اسطنبول فكما ذكرت لك سابقا يا مولاي، بأن أمه تركية، استكمل تحصيله العلمي عند أهل أمه، فعاش هناك يعلم ويتعلم علم الرياضيات، تعلم على يد علماء عاصمة الدولة العثمانية،وقد ارتقى مرتبه ووصل الى مراتب عالية من العلم، فقد عمل كخبير في حسابات السلطان بديوان المال في قصر السلطان العثماني.
كان الوالي العثماني يبدي اهتمامه وإعجابه لما يسمع،فأشار له أن يكمل بعد أن توقف ليأخذ رشفة ماء يستجمع بها كلماته ثم واصل: كما ساعده إتقانه للّغتين العربية والتركية في تعليم أهل اسطنبول والوافدين اليها، إلى أن بلغه خبر وفاة أبيه فاستقال بعد ذلك من منصبه وعاد إلى الجزائر لرعاية أمّه، كان لأبيه حوانيت عمل فيها فترة من الزمن، ثم باعها بعد ذلك وباع البيت أيضا مقررا القدوم والانتقال إلى هنا في أرض مكّة لأداء فريضة الحج،ثم استقر به المقام للإقامة بجوار البيت الحرام.
لم يكن ابن حمزة يدرس الرياضيات فقط وانّما كان ملمًّا بكافّة أنواع العلوم إلا أنه كان أكثر حبا لعلم الحساب، كماأني سمعت أنه قام بتدريسه للحجاج، وقد كان يركّز في تدريسه على المسائل الحسابية التي تواجه الناس بصفة يومية،كذلك تطرق الى مسائل الإرث، وهذا كل ما استعطت معرفته حول المدعو بالنّساب يا مولاي.
انصرف الرجل وبقي الوالي مشغول الفكر والبال معجبا بما سمععن عالم الرياضيات هذا، وكيف أنه تفوق على علماء الهند وحلّ ما عجزوا عنه، فأمر بطلبه، وجاءه متسائلا عن استدعائه المفاجئ، وما لبث أن أجابه الوالي عن تساؤله وعرض عليه أن يعمل لديه ويمسك العمل في ديوان المال، فقبل ابن حمزة واشتغل ومكث فيه خمسة عشر عاما، وخلال هذه السنوات لم يتوقّف عن سعيه وراء العلم، بل إنه عكف على دراسة المتتاليات العددية والهندسية والتوافقية دراسة معمّقة وقاده هذا إلى وضع حجر الاساس في علم اللوغاريتماتمسهلا بذلك العمليات الحسابية،وذلك بالربط بين متتالية هندسية ومتتالية حسابية. وقد مهد بأعماله الطريق لمن أتى بعده من العلماء لإجراء أبحاث في اللوغاريتمات، مسديا خدمة عظيمة للعلوم التطبيقية،إلا أن الغرب يواصل إصراره على أن المؤسس الحقيقي والمبتكر لهذا العلم وهو العالم جون نابييرالاستكلندي.
وقد ألّف كتاب “تحفة الأعداد لذوي الرشد والسداد” باللغة. التركية، اشتهر هذا الأخير على نطاق واسع ففيه يبحث في مسائل المساحات والحجوم والعديد من المسائل الأخرى.
إن المسألة المكية وحلها مازالت تحتفظ بها كتب التراث فقد أورده صالح زكي في كتابه ” آثار باقية” ونقله حافظ طوقان في كتابه ” تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك” والذي سمّي فصل العلماء القرن 16 ميلادي ب”عصر المغربي” ضاعت العديد من مؤلفات ابن حمزة المغربي والتي لاشك أن بها معلومات قيمة مفيدة كما احتوى كتابه ” تحفة الاعداد لذوي الرشد والسداد” والذي كما ذكر ألّفه عندما كان بمكة باللغة التركية، وقد جاء ذكره بعنوان “تحفة الأعداد في الحسابفي كتاب الظنون عن أسامي الكتب والفنون” تناول فيه المسائل الحسابية والمساحات والحجوم، واحتوى على بحوثه وابتكاراته في المتتاليات، وجمع فيه أفكاره حول الإرث، إضافة إلى العديد من المواضيع والمسائل التي تطرق اليها من خلاله. كما مدحه المؤرخون بأنه شخصية جزائرية راسخة وبارزة نفتخر ونعتز بها، خدمت العلم والعلوم وبشكل أدق خدمت علم الرياضيات استنفع بها الناس في القرن السادس عشر ولا تزال تنفع الناس بما قدمته من حلول وقواعد في الرياضيات والتي يُعتمد عليها إلى وقتنا الحالي.
وبمثل هذه الشخصيات نعتز ونفتخر؛نسعى لترسيخها وذكر فضائلها خدمةللعلم .

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.