فلسفة جمعية العلماء – الشيخ البشير الإبراهيمي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وإمام المتقين. وعلى آله وصحبه أجمعين.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. آمنت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبالكعبة قبلة، وبالقرآن إمامًا، وبسيدنا محمد نبيًا ورسولًا.
أقسم ما كنت أدري لم فاضت نفسي بهذه الآية عندما أخذت القلم لأكتب هذا التصدير لنشرة جمعية العلماء؟ ولم جاشت بهذا الاعتراف الشامل لكليات الإيمان في هذا الوقت؟ ولكنني بعد أن كتبت الآية وسجلت الاعتراف وضعت القلم ورجعت إلى نفسي أسائلها فيما بيني وبينها: بأي شعور كانت مغمورة؟ أو أي انفعال كان يساورها حين أملت على القلم هذه الآية، وحين فاضت بهذا الإقرار الذي لا داعي إليه من مثلها في مثل هذا الوقت؟ فخفقت خفقة هي أشبه شيء بلفتة المذعور، كأنها تبحث عن هذا الشعور في الماضي المتصل بالحال، وتبين لي أنها كانت سابحة في جو من التفكير في حال المسلمين، واستعراض ماضيهم السعيد وحاضرهم الشقي، وتلمس الأسباب والعلل لهذا الانحطاط المريع، بعد ذلك الارتفاع السريع، وكأنها وقفت بعد ذلك الاستعراض موقف الحيران المدهوش تسأل: كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم؟ أم كيف يتفرقون ويضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان. ولكن الأولين آمنوا فأمنوا واتبعوا فارتفعوا. ونحن … فقد آمنا إيمانًا معلولًا، واتبعنا اتباعًا مدخولا. وكل يجني عواقب ما زرع. ثم أدركتها الرهبة فلجأت إلى الابتهال فالتقى اللسان والقلم على هذه الآية:
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
أما أن المسلمين الأولين سعدوا بالقرآن واتباع الرسول فهذا ما لا مراء فيه، وهو الحقيقة العارية التي جلاها التاريخ على الناس من جميع الأجناس، وزكاها بشاهدين من آثار العلم ونتائج العقل. فإن احتمل أن يجهل هذه الحقيقة جاهل فهم سواد المسلمين قبل غيرهم. وإن وقف باحث عند الظواهر السطحية وقال: سعدوا بالاتحاد مثلًا قلنا له: وما الذي وحدهم بعد ذلك التفرق الشنيع غير القرآن؟ أو قال قوم: استيقظت فيهم عواطف الخير ونوازع الشرف حين ماتت في الأمم فسادوها وقادوها، قلنا له: نعم. ولكن ما الذي أيقظ فيهم تلك العواطف وتلك النوازع وما هم إلّا ناس من الناس، بل قد كانوا قبل القرآن أضل الناس. وليسوا من جذم واحد حتى تتقارب فيهم النوازع الجنسية التي يتوارثها أبناء الجذم الواحد ويترابطون بها وسهل استيقاظها فيهم فجأة. لأننا لسنا نعني بالمسلمين الأولين العرب وحدهم، وإنما نعني بهم الأمم التي دانت بالإسلام في قرونه الأولى، تربت في كنف القرآن وتحت رعايته، وطبعت على غرار الهدي المحمدي. فحرر القرآن أرواحها من العبودية للأوثان الحجرية والبشرية، وحرر أبدانها من الطاعة والخضوع لجبروت الكسروية والقيصرية، وجلا عقولها على النور الإلهي فأصبحت تلك العقول كشافة عن الحقائق العليا، وطهر نفوسها من أدران السقوط والإسفاف إلى الدنايا، فأصبحت تلك النفوس نزاعة إلى المعالي مقدمة على العظائم. وحدد لها لأول مرة في التاريخ صلة الروح بالجسم ومدى تعاونهما في التدبير، وكيفية الجمع بين مطالبهما المتباينة، وعلمها لأول مرة في التاريخ كيف يستغل الإنسان استعداده وفكره، ففتح أمامه ميادين التفكر والاعتبار، وأمره أن يسير في الأرض ويمشي في جوانبها ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض. وقد كان الناس قبل القرآن على جهل مطبق بهذا (الاستعمار الفكري) حتى بينه القرآن الكريم، ووضع قواعده، وأرشدها لأول مرة في التاريخ أن الإنسان أخو الإنسان لا سيده ولا عبده، وأنّ فضله في المواهب، وأن تساوي الناس في استعمار الأرض تابع لتساويهم في النشأة، وهذا تقرير لمبدإ المساواة وهو المبدأ الذي لم يسبق الإسلام إليه سابق، ولم يلحقه فيه لاحق، وإن زعم المتبجحون …
بهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس بأصحابها تفتح الآذان قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسان الأرواح قبل الأشباح، وتعلن في صراحة القرآن وبيانه حقوق الله على الإنسان، وحقوق الإنسان في ملك الله، وحقوق الإنسان على أخيه الإنسان. إنّ الذي صنع هذا كله- وأبيك- للقرآن. ولكن ما هو هذا القرآن الذي نكرره في كل سطر؟
أهو هذه (الأحزاب الستون) أو (الأجزاء الثلاثون) التي نحفظها وننفق على حفظها سنوات الطفولة العذبة، وسنوات الشباب الزهر. ثم لا يكون حظنا منه عند هجوم الكبر إلا قراءته على الأموات بدريهمات، واتخاذه جُنة من الجِنَّة وغير ذلك من الهنات الهينات؟ إن كان هو هذا فَلِمَ لم يفعل في الآخرين فعله في الأولين؟ ولمَ نرى حفاظه اليوم- على كثرتهم- أنقى الناس من هذه المعاني التي كان القرآن يفيضها على نفوس حفاظه بالأسى؟ ونجدهم دائمًا في أخريات الناس أخلاقًا وأعمالًا حتى لقد أصبحوا هدفا لسخرية الساخر، يتكسبون بالقرآن فلا يجديهم، ويقعون في المزالق فلا يهديهم، مع أنهم يقرأون فيه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
فنعم: إن القرآن هو هذه الأحزاب الستون التي نقرأها اليوم بألفاظها وحروفها ونقوشها، منقولًا بالتواتر القطعي، محفوظًا بحفظ الله من كل ما أصاب الكتب السماوية من قبله من النسيان والتبديل وتحريف الكلم عن مواضعه. كبر بتواتره عن الاسناد والمسندين، وشهادة المعدلين والمجرحين، قد نيّف على ثلاثة عشر قرنًا ولم يشك المسلمون في حرف منه فضلًا عن كلمة، وفي الأرض عدد حصاها أعداء له يتمنون بقاصمة الظهر أن لو ينطفئ نوره، ويستسر ظهوره، ويرضخون في سبيل محوه من الأرض بما كسبت الأيدي واحتقبت الخزائن من الأموال، وبما أخرجت بطون النساء من الرجال، وبما أنتجت القرائح من مكر واحتيال وكيد ومحال. فلم ينالوا منه نيلًا إلا مضضًا تنطوي عليه جوانحهم، ووغرًا تنكسر عليه صدورهم، وشجى تنثني عليه لهواتهم، وحقدًا تغلي مراجله في نفوسهم، وقد أبقاهم الله وأبقى لهم منه المقيم المقعد وهم بهذا الحال وهو بهذا الحال إلى يومنا هذا، فلينم المسلمون ملء جفونهم، ولينعموا بالًا من هذه الناحية، وليعلموا أن القرآن أُتِيَ من قبلهم …
ولكن سر القرآن ليس في هذا الحفظ الجاف الذي نحفظه، ولا في هذه التلاوة الشلاء التي نتلوها، وليس من المقاصد التي أنزل لتحقيقها تلاوته على الأموات، ولا اتخاذه مكسبة، والاستشفاء به من الأمراض الجسمانية.
وإنما السر كل السر في تدبره وفهمه، وفي اتباعه والتخلق بأخلاقه. ومن آياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}، ومن آياته {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} و {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}.هذه هي الطريقة الواحدة التي اتبعها المسلمون الأولون فسعدوا باتباعها والاستقامة عليها، وهذا هو الإسلام متجليا في آيات القرآن، دين واحد جاء به نبي واحد عن إله واحد، وما ظنك بدين تحفه الوحدة من جميع جهاته؟ أليس حقيقًا أن يسوق العالم إلى عمل واحد وغاية واحدة واتجاه واحد على السبيل الجامعة من عقائده وآدابه؟ أليس حقيقًا أن يجمع القلوب التي فرقت بينها الأهواء، والنفوس التي باعدت بينها النزعات، والعقول التي فرق بينها تفاوت الاستعداد؟
بلى والله إنه لحقيق بكل ذلك.
__________
* من كتاب سجلّ مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المنعقد بنادي الترقّي بالعاصمة في سبتمبر سنة 1935، المطبعة الإسلامية الجزائرية، قسنطينة، [ص:5 – 72].