حصريا

عمائرنا بين الإمتاع والاندثار

0 108

عمائرنا بين الإمتاع  والاندثار

نعيمة ملزي

المتجول بين ثنايا عمائرنا العتيقة سينتعش ولا شك من ذلك العبق الذي يلتحف بالمكان والزمان معا كاشفا اللثام عن شواهد أثرية ومعالم عمرانية متناهية الدقة، بالغة التصميم تنبئ عن عهد العظمة الذي شهدته الحضارة الإسلامية في أوج مراحل شروقها،بحيث ترتحل بك تلك الفنون المعمارية المجسدة بين جدران المنازل وأعمدة القلاع والمساجد والقصور إلى عمق الزمن الأصيل المتناغم بشكل أنيق مع ملامح الأصالة النابعة من قيم حضارتنا الإسلامية ذات البعد الروحي الذي نفتقده اليوم في عمراننا الحديث المستوحى من رفوف المدرسة الغربية المتميزة ببعدها العلماني المادي البحت، بل وأكثر من ذلك فهي  تضم بين دفات مقرراتها و كتبها كل ما من شأنه التقليل من قيمة  العمارة الإسلامية و مرجعيتها، حيث ورد في كتاب الدكتور مصطفى أحمد بن حموش (فقه العمران الإسلامي من خلال الأرشيف العثماني الجزائري _ 1830م)، أن كتب المستشرقين من أمثال دومينيك وسورديل و شوفالي و غيرهم ذهبت إلى وصف عمائرنا  بمنتهى العشوائية وبامتثالها للتصرفات الآنية للأفراد و عدم وجود أي نظام هندسي تقوم عليه على عكس المدينة الرومانية ذات الشبكة الشطرنجية الهندسية ، و يقابل هذا الاستهجان -الذي له مبرراته التاريخية- ذلك  الانبهار الذي سجله ابن التخصص المهندس المعماري الفرنكو- سويسري لوكوربوزييه اثناء جولاته من اروقة ميزاب إلى سطوح حي القصبة مهيبا بذكاء مصممي ذلك العمران الذي لاحظ فيه تكامل و انسجام  تام مع شؤون الحياة الاجتماعية الخاصة القائمة أساسا على الحشمة و الحياء و احترام حرمة الجار و عدم التكشف و كل ما حثت عليه تعاليم ديننا الحنيف.

و تجدر الإشارة إلى أن  الحديث عن الأصالة المتجذرة في العمارة الإسلامية ليس من باب الترف الإنشائي أو اجترار التاريخ بقدر ما هو التفاتة خاطفة للنظر في حال عمراننا بين اليوم و الأمس، أضف إلى ذلك فإن واقع الحال يفتح المجال للتوقف و يستحث على  الاستفهام بين ما كان و ما هو كائن.

إن التوقف عند العمران  كفضاء اجتماعي و حضاري تتشابك فيه مصالح الأفراد و تتمازج فيه الثقافات و المرجعيات،  يدفعنا من باب الفضول إلى التعريج على موسوعة الفكر الخلدوني الذي انفرد باستحداث منهجية علمية هي الأولى من نوعها، لدراسة التاريخ وغربلته وفق منظار مُتفحص للعمران البشري بوصفه مجالا للاجتماع الإنساني القائم على جملة من الصلات التفاعلية بين البيئة الطبيعية و البيئة الاجتماعية في إطار جغرافي واضح المعالم وسياق تاريخي محدد، بحيث ذهبت منهجيته إلى تجسيد المظاهر الحسية للحضارة في ابسط شؤونها بداية من التفنن في الترف و المباني و صولا إلى السعي اليومي لتحقيق المكاسب في قوله “التفنن في الترف و التكلف بالصنائع..و المباني”،”والعمران و وفوره و نفاق أسواقه،إنما هو بالأعمال و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين و جائين”، و يبدو جليا أن المدينة كتشكيل معماري هي نتاج لتمازج تراكمي ممتد في الزمن بين عالم الأشخاص ، الأمكنة و الأشياء و هي الوجه الأخر للحضارة و الغاية المنشودة للبداوة حسب ابن خلدون..و تكفينا هنا الإشارة إلى مواقع الآثار الفرعونية والرومانية و الأندلسية الناطقة بلغة تعبيرية مجسدة في جمالية التعمير وبراعة التخطيط العمراني الكامن في عبقرية النسيج الفكري و الهوية الثقافية لذلك الزمن ..

و بالعودة إلى مدننا أو إلى أشباه المدن التي نحيا بين زقاقها المتصدعة بفعل الإرث الاستعماري السالب للهوية و التمدد العشوائي المتخم بالفردانية، سنكتشف بحسرة أثار ذلك الخراب و التفكك  الذي قضى على معالم الهوية و الانتماء الثقافي و فتح المجال لمزيد من التوتر والانتقام الاجتماعي بشكل يوحي بأن الأجيال القادمة سوف لن تجد ما تستنبطه من ضمن هذا الهجين المعماري الذي قضى على كل روابط التواصل بين المدن وذاكرتها، وبات الوضع ينبئ عن استسلام مفتعل يرسم بداية النهاية لمسار الحياة في مدننا، فهي أشبه ما تكون بملاجئ عابري السبيل التي ينعدم فيها حس الانتماء للمكان و حتى للزمان! و في سياق متصل فإن لغة العنف و الجريمة التي ترزح مدننا اليوم  تحت وطأتها ما هي الإ انعكاس ضمني لواقع يشهد حراكا حضريا غير طبيعيا بفعل جملة من المنعطفات الاجتماعية و الاقتصادية التي يشهدها واقعنا المعاصر،و حسب منظور التخطيط العمراني فإن لكل مدينة قدرة استيعابية محدودة لمجمل السكان و الهياكل و كذا الأنشطة الاقتصادية  و متى ازداد حجم النمو الديمغرافي حصل اختلالا في توزيع المرافق و تقديم الخدمات وتتزايد بذلك عوامل الضغط و التخلف وسط  حالة من الاختناق العمراني و البيئي، و تعجز بالتالي المدينة عن التكفل بأفرادها الأصليين و النازحين على حد سواء الأمر الذي يرفع ميزان التوتر و يفتح المجال لكل الاحتمالات و منه فبدل أن تكون المدينة غاية للتحضر و التمدن وفق المنظور الخلدوني تصبح مسرحا للفوضى و منبعا لتصدير مختلف القيم السلبية الهدامة للمرجعيات الثقافية و الدينية في المجتمع، و مع ذلك نعود و نؤكد أن هذا لا ينفي جمالية بعض المدن الكبرى سواء هنا بالجزائر أو ببعض البلدان العربية التي مازالت تصنع الاستثناء بنسيجها الحضري و مازالت شامخة بأقواسها و قبابها ذات الطراز الإسلامي العربي في نوع من التحدي أمام تسونامي العولمة الجارف الذي لا يعرف أصلا للثوابت و الهويات و لا يرضى بجغرافية الثقافات ..فهل سيرضى بالانهزام أمام عبق هذه المدن و صرحها الذي مازال شاهدا على حقب من التاريخ و حضارات التمدن ؟ـــــــــــــــــــــــــــــ ملزي نعيمة

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.