علاقة المسلم بغير المسلم
رشيد طوحة (أستاذ باحث)
علاقة المسلم بغير المسلم
يقرر الإسلام العلاقة بين البشر[1] بأنها للتعارف, يقول المولى عزّوجلّ: [يأيها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثي وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقكم إن الله عليم خبير] (الحجرات: 13), وأن تعايش المسلم مع غير المسلم ليس بمستنكر مادام في إطار العلاقة العادية دون تهديد للمسلمين أو اعتداء على الدين, وبين سبحانه وتعالى أساس هذا التعايش بقوله: [لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] (الممتحنة: 8), بل قد يتطور التعايش إلى أن يكون تعاوناً إذا كان الداعي له أمر خير ونفع الناس, يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أن لي به حمر النعم, ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”[2].
وقرر الإسلام علاقة القومية والوطن, بمعنى انتماء الإنسان إلى بيئتة وبلده, ما لم يتحول الآخرون إلى أعداء لهذا الدين ومحاربين له, لذلك وصف القرآن الكريم بعض الأنبياء إلى أقوامهم بالأخوة (الإنسانية): [وإلى عادٍ أخاهم هُودّا] (الأعراف: 65) (هود: 50), [وإلى مدين أخاهم شُعيباً] (الأعراف: 58) (هود: 84).
كما أيد الإسلام البر بالوالدين رغم كفرهم, إبقاء وتأييداً للرحم, رغم أن ذلك يعني المحبة والصلة والعطف, ولكن هذه العاطفة الإنسانية والعلاقة والبشرية, وليست الحب الإيماني والذي خص به المسلمون, وهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول يهدد أباه إن لم يعتذر للرسول صلى الله عليه وسلم رغم اعترافه بحبه له وبره به, لكن ليس على حساب الدين.
ومن هذا أيضاً جواز الزواج من الكتابية وما قد ينتج عنه من محبة رغم كفر الطرف الآخر, لكن المحبة هنا فطرية وليس دينية, بمعنى أنه لا يسمح لها بالتجاوز, وقد ذكر الله حب المؤمنين – العفوي – لغيرهم: [هانتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم] (أل عمران: 119).
وعلى هذا الأساس – أي التفريق بين أنواع الحب من جبلي فطري وإيماني عقائدي – تكون العلاقة مع غير المسلم, بمعني الحب له والصلة به, وهذا يؤكده أيضاً فطرة الله على حب الشهوات, قال تعالى: [زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعم والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب] (آل عمران:14), ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حبب إلى من الدنيا النساء والطيب, وجعل قرة عيني في الصلاة”[3].
والمحبة على أساس الدين هي الأصل وهي أعلى درجات الحب, وهذا يقتضي التبرأ من أعداء الدين, قال تعالي: [لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا إباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] (المجادلة: 22). فالمودة التي نهى الله عنها في هذه الآية هي لمن كفر وحادّ الله ورسوله, وليس فقط لمن كفر, بل هو من زاد على كفره أنّه يحادّ الله ورسوله, ويحارب الإسلام والمسلمين . ذكر الشوكاني في تفسيره, أن هذه الآية نزلت في أبي عبيدة بن الجراح, رضي الله عنه عندما قتل والده في غزوة بدر.
ويبقى السؤال: هل كل كافر حربي؟ هناك من طرح هذا المفهوم وأصله وما ينتج عنه من إباحة دمه وماله ومعاملته بأخلاق الحرب كجواز الكذب والاحتيال. الكافر الحربي – كما قرر فقهاء الإسلام – هو من أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته, وخلاف ذلك, فالأصل في حال الكافر أنه غير حربي, وأحياناً تقع معاهدات بين المسلمين والكفار مما يوجب على جميع رعاياهما (بما فيها المسلمون) الالتزام بها, وهناك حالة ثالثة للكافر وهي (خلاف الحرب وخلاف العهد) احتمالية الحرب.
يذكر كثير من الفقهاء أن [4](الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين الحرب) ولكنهم لم يريدوا بذلك ما يتوهّمه كثير من الناس اليوم, ولو أردنا أن نمحّص مقصود الفقهاء في عصرهم حسب لغة عصرنا لقلنا/ إنهم يقصدون بتلك العبارة (أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين احتمال الحرب) وليس حتمية الحرب, وذلك واضح مما يذكرونه من أحكام تتعلّق بنزع صفة الحربي لأقل سبب.
وعند تمحيص علة القتال (للكافر) نجد أنها الحرابة وليس الكفر, بمعنى أنه, لا يستحق القتل لكفره, ولو كان هذا صحيحاً ما ترك المسلمون في البلدان التي فتحوها أي مخالف للإسلام, وأبادوهم عن بكرة أبيهم, لذلك فالإسلام ينطلق في تعامله مع (الغير), ولو كان كافراً, من أنّ الأصل في العلاقة مع هي السلم لا الحرب, وقد ورد في ذلك الكثير من النصوص الشرعية, قال تعالي: [فإن اعتزلوكم فلم يقتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً] (النساء: 90), وقوله تعالى: [وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله] (الأنفال: 61), فالإسلام لا ينزع للحرب ابتداءً, إلا أن يكون ظلم واعتداء ومنع من تبليغ رسالة الإسلام للناس, أما ما عدا ذلك فلا إكراه في الدين, فالباعث على القتال هو الاعتداء وليس مجرد المخالفة . والاسلام يكره الحرب ويعتبر كف المؤمنين عن القتال من المنن التي يمن الله بها على عباده: [وكفي الله المؤمنين القتال] (الأحزاب: 25).
بل كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم, يغير من أسماء صحابته الذين تسموا بحرب ومرة[5], لكراهته للحرب وأسمائها, فهذا هو الاتجاه العام أو المسار الذي يضبط علاقتنا مع غير المسلمين, وإلى هذا ذهب كثير من الفقهاء, مسترشدين في ذلك بكتاب ربهم تبارك وتعالى: [يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنك شنئان قومٍ على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون] (المائدة: 8), وبقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “ألا من ظلم معاهداً أو انتقصة أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة“[6].
أما واقع بلاد الغرب – بالجملة – فليست دار حرب, كما زعم بعضهم, ذلك أن المعوّل عليه أن الغرب يميل إلى أن يكون دار عهد ودعوة – بالجملة – رغم غياب دار الإسلام بالمعنى الحرفي لها, وانعدام دار الحرب في الواقع الحقيقي المعاش.
ولمزيد إيضاح القضية ننقل هنا باختصار شديد بحث للشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل حول الموضوع:
“أن الأصل في علاقة المسلمين بغيريهم هو السلم, فأما الأدلة من كتاب الله فهي على أربعة أنواع:
- النوع الأول: الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالسلم, وحث فيها على قبوله من الكفار, حين اللجوء إليها, كقوله تعالي: [يأيها الذين أمنوا أدخلوا في السلم] (البقرة: 208), وقوله: [وأن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوصل على الله] (الأنفال: 61), وقوله: [فإن اعتزلوكم فلم يقتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً] (النساء: 90).
- النوع الثاني: الآيات التي قيد الله فيها الأمر بقتال الكفار في حال اعتدائهم وظلمهم للمسلمين, كقوله تعالي: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين] (البقرة: 190), وقوله: [أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير, الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله] (الحج: 39 – 40).
- النوع الثالث: الآيات التي أباح الله فيها صلة وبر الكفار الذين لم يقاتلونا كقوله تعالي: [لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] (الممتحنة: 8).
- النوع الرابع: قوله تعالى: [لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي] (البقرة: 256). قال شيخ الإسلام أبن تيمية, رحمه الله: جمهور السلف على أنها ليست بمنسوخة ولا مخصوصة, وإنما النص عام, فلا نكره أحداً على الدين, والقتال لمن حاربنا, فإن أسلم عصم ماله ودينه, وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله, ولا يقدر أحد قط أن ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أحداً على الإسلام, لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه, ولا فائدة في إسلام مثل هذا, لكن من أسلم قبل منه ظاهر الإسلام[7].
أما الأدلة من السنة فكثيرة, منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تتمنوا لقاء العدو, وسلوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف” أخرجه البخاري في صحيحة حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم من الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو, وهذا يدل على أن حالة الحرب حالة طارئة, لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها.
حرب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين, كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة, وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب, ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك, والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال[8]. رسائل النبي صلى الله إلى الملوك والأمراء, ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام يدل على أن الأصل السلم, ولو كان الأصل الحرب لما أرسل إليهم رسائل, وإنما بعث إليهم جيوشاً للمحاربة, وأيضاً الإجماع, حيث نقل اتفاق المسلمين[9].
عملاً بالثابت من السنة, أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان – وزاد الحنفية والمالكية والحنابلة: الرهبان والشيوخ, والعميان, والعجزة, والأجراء, والفلاحين في حرثهم, إلا إذا قاتلوا أو شاركوا برأي أو إمداد, قالوا لو كان الأصل مع الكفار الحرب لحملهم على الإسلام, ما ساغ استثناء هؤلاء, واستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه, قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الصواب أنهم لا يقاتلون, لأن القتال هو لمن يقاتلنا, إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد ذلك”.
إن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو دعوتهم إلى دين الإسلام كمرحلة أولى, فإذا ما قامت بهذا الحمل الدعوي الكبير, ودعت أمم الكفر لدين الإسلام, ففي هذه الحالة ينقسم الكفار إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: من يستجيب منهم لدعوتنا, ويعتنق ديننا, فهؤلاء إخواننا, لهم ما لنا وعليهم ما علينا, قال تعالى: [فإن تابوا وأقاموا الصلوات واتوا الزكوة فإخوانكم في الدين] (التوبة: 11).
القسم الثاني: من لا يقبل الدخول في الإسلام, لكن لا يقف في طريق دعوته, ولا يقاتل من يدعو إليه, ويلقي إلينا السلم, سواء كان من أهل العهد أو لم يكن, فهؤلاء الأصل في حقهم المسالمة, ما لم يعتدوا بقول أو فعل, وعلى هؤلاء تحمل الآيات التي أمر الله فيها بالسلم, وأباح فيها الإحسان للكفار, كقوله تعالي: [لا ينهاكم الله عن الذين لم يقتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين] (الممتحنة: 8).
القسم الثالث: من يرفض الدخول في الإسلام, ويقف في طريق دعوته, أو ينقض عهداً مع المسلمين, أو يعتدي على أحد منهم بقول أو فعل, أو يخطط لذلك مستقبلاً, فهؤلاء الأصل في حقهم الحرب – وهي المرحلة التالية لدعوتهم إلى دين الإسلام – وعلى هؤلاء تحمل الآيات الواردة بقتال المشركين كقوله: [وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله] (البقرة: 193), وقوله: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر …] (التوبة: 29), وقوله: [فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم] (التوبة: 5).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية, رحمة الله: القتال هو لمن يقاتلنا, إذا أردنا إظهار دين الله, كما قال تعالى: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين] (البقرة: 190).
وقال الأمام النووي, رحمه الله: “الناس صنفان, فأما الذين قاتلوا أهل الإسلام أو أجلوهم عن أوطانهم أو أعانوا على شي من ذلك فمن الظلم المنهي عنه أن يتولاهم المسلمون, ويحنوا إليهم, ولهؤلاء وأمثالهم شرع القتال ليفسحوا للدعوة سبيلها, وأما الذين لم يفعلوا شيئا من ذلك فلا على المسلمين في الإحسان إليهم والبذل لهم ، ولو كان هؤلاء ممن أمر بقتالهم لما ساغ ذلك, فعسى أن يكون فيه قوة لهم, مع أن إضعاف العدو بكل وسيلة من أخص ما يعني به المحاربون”[10].
وبناء على ذلك, فإن طبيعة العلاقة بين المسلمين المقيمين في الغرب وشعوب تلك البلدان تقتضي التزام قوانينهم – في ما لا يخالف قواعد الإسلام وأحكامه – كجزء من عهد الإقامة بين ظهرانيهم .. وعلى الرغم من أن هناك بعض الأصوات التي تحذر من الإسلام في الغرب وتهوِّل من صراع الحضارات (رغم أن الإسلام منتصر لا محالة كما بِّين ذلك الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم) إلا أنه ليس من المصلحة إظهار هذا الأمر, بل قد يكون من الأنسب – لهم – العمل على إزالة الحواجز بينهم وبين الغرب الكافر, ليسهل عليهم البقاء من جانب وإيصال رسالة الإسلام باطمئنان وأمان دون تهديد ووعيد من جانب آخر.
[1] ـ عصام البشر, مؤتمر الإسلام والغرب, الخرطوم, ديسمبر 2003م, فيصل مولودي, المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب.
[2] ـ سيرة ابن هشام, والكلام هن هذا الحلف ذكر في البداية لأبن كثير بإسناد صحيح.
[3] ـ أخرجه الترمذي وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن.
[4] ـ فيصل مولوي, المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب.
[5] ـ ونيس المبروك, المسلمون في الغرب, أستاذ الفقه بالكلية الأوربية للدارسات الإسلامية, منتدى التاريخ.
[6] ـ أخرجه أبو داوود.
[7] ـ السياسية الشرعية, ص 123 – 125.
[8] ـ ابن تيمية, رسالة القتال, ص 125..
[9] ـ مجموع فتاوى ابن تيمية, 28/414.
[10] ـ شرح مسلم, 1/98.
دمت متالقا وخادما للعلم السي رشيد طوحة بالمزيد انشاء الله و كل التوفيق