عالمات برغم التحديات _ عائشة عبد الرحمان وهند شلبي _
عالمات برغم التحديات _ عائشة عبد الرحمن وهند شلبي _
د-حجيبة شيدخ
حين نتحدث عن المرأة وما يواجهها من تحديات، تسترجع كل واحدة منا تاريخ حياتها، وتتذكر ما واجهها في مسيرتها العلمية، ولكن برغم كل التحديات ندرك أننا حققنا في حياتنا أشياء جميلة، ليست هي الشهادات فقط وإنما الرحلة في طلب العلم ولقاء العلماء، وصحبة الكتب … والمرأة القوية تخترق الأزمات كي تنجب كتبا، وتستيقظ من أحضان أطفالها كي تنجز أعمالها العلمية، وبرغم كثرة الانشغالات تواصل مسيرتها. إن التحديات تواجه كلا من الرجل والمرأة، ولكن طبيعة التكوين الأنثوي تجعل المرأة أكثر شعورا بالواقع، فتكون أكثر انشغالا واهتماما بالحياة الأسرية والاجتماعية، وهذا يؤثر على مسيرتها البحثية، وقد يحدث أن تتفوق بعض النساء في جميع المجالات إذا تيسر لهن من القوة والطاقة ما يجعلهن أهلا لذلك.
اخترت هدا البحث للحديث عن عالمتين في العلوم الشرعية، وقد وقع اختياري على عائشة عبد الرحمان؛ لثناء العلماء عليها كمحمد الغزالي –رحمه الله– فكان يقول لنا: عائشة عبد الرحمان عالمة، ولأنها أول امرأة تحاضر بالأزهر. والثانية: هند شلبي لأنني تعرفت عليها حين كنت أحضر بحثي عن محمد الطاهر بن عاشور بالمكتبة الوطنية بتونس وقد استفدت من علمها ورقيها الأدبي، ولأن هاتين العالمتين فعلا عاشتا في زمن التحدي إذ كانت عائشة عبد الرحمان عالمة في زمن كان طلب العلم فيه على المرأة عزيزا، وكانت هند شلبي أول دكتورة في العلوم الشرعية ببلدها تونس، في زمن بورقيبة، الزمن الذي حورب فيه الإسلام بكل أشكال العنف.
أولا – عائشة عبد الرحمان:
حياتها ورحلة طلب العلم الشاقة:
هي عائشة محمد عبد الرحمان المعروفة ببنت الشاطئ ولدت عام 1913م في مدينة دمياط، وهي من عائلة اشتهرت بالعلم والدين؛ فكان والدها محمد بن عبد الرحمان الحسيني أزهريا، وكان جدها لأمها إبراهيم الدمهوجي أيضا شيخا أزهريا، وقد تعلمت العلوم الشرعية على والدها وحفظت القرآن في سن مبكرة على الشيخ مرسي بالكتاب بقرية والدها، وتحكي في سيرتها: “على الجسر” أنها الابنة الثانية في الأسرة إذ أنجبت أمها قبلها بنتا، وتمنى والدها أن تكون ولدا، وبعدما رزقه الله بها سماها عائشة تفاؤلا باسم أم المؤمنين رضي الله عنها، وكناها بأم الخير ونذرها لطلب العلوم الشرعية([1]). ترتيبها في العائلة هو الثاني بين خمس شقيقات وشقيقان اثنين.. ([2]).
لم يكن التعليم في زمن عائشة متاحا لكل الفتيات إلا للقليلات منهن، وقد كانت هي واحدة منهن، إلا أن ذلك لم يتحصل لها إلا بصعوبة كبيرة إذ كان والدها حريصا على تعليمها العلوم الشرعية، ولكنه كان يرى التحاقها بالتعليم المدني من الأمور المستحيلة. إلا أن هذا الموقف المعارض وجد في المقابل فتاة طموحة تريد الذهاب إلى أبعد الحدود في طلب العلم، وقد أجابها حين أبدت رغبتها في الدراسة بقوله: “ليس لبنات المشايخ العلماء، أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة، وإنما يتعلمن في بيوتهن “([3])
وأمرها بتلاوة سورة الأحزاب إلى قوله – تعالى – «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)».
وبين أوامر الوالد وطموح الطفلة كان تدخل الجد الذي ساعد عائشة على المضي في طريق العلم، إلا أنه كان مضيا محفوفا بالتوتر والألم، فقد كانت في بعض الأحيان تذهب لإجراءالامتحانات خفية خوفا من أبيها.
وواصلت تعليمها وحصلت على شهادة الكفاءة للمعلمات عام 1929م بترتيب الأولى على مستوى القطر المصري تقول:”كنت أتعلم خلسة، وأذاكر دروسي خفية واستتارا، واستعد للامتحان بين كل مرحلة ومرحلة، في جو مشحون بالفزع والذعر. وحين كنت أخرج إلى المدرسة، في مواعيد اشتغال أبي بدروسه في المعهد الديني، كنت أمشي في الطريق فزعة ألتفت ورائي بين كل خطوة وأخرى، متوجسه خيفة أن يلمحني أبي! وإذا لم يخرج من البيت بقيت حبيسة لا أجرؤ على الخروج…. وفى مرة من هذه المرات، ذهبت لأؤدي امتحان شهادة الكفاءة للمعلمات، ولما ظهرت النتيجة تحدثت الزميلات عن الحظ الذي أتاح لواحدة مثلي –من منازلهن- أن تكون أولى الناجحات في القطر كله. ولم يشهدن بيتنا يومئذ وهو يترنح ويوشك على الانهيار، وقد خرجت منه أمي مرتين طالقة، لأنها أصرت على تعليمي، وتعرض صغارها الأبرياء للتشرد والضياع!” ([4]).
وفي كتابها على الجسر تحكي أديبة الفقهاء أنها في كل مرة كانت تجتازها كانت تترقبها عقبة إصرار والدها لإيقافها على مواصلة هذا التعليم الذي كان يراه طريق الشيطان، تقول: “…تابعت تحصيل المواد المقررة على طلاب الباكالوريا، وتقدمت لامتحانها من المنزل .
وهكذا مشيت على الدرب الوعر؛ فكلما قطعت شوطا منه تقدمت إلى امتحان شهادة خفية عن التقاليد الساهرة على حراستي كي لا أنحرف عن الاتجاه المرسوم لي.. وخفية كذلك من الأوضاع الطبقية والنظم التعليمية، واللوائح المدرسية التي أقامت الحواجز والسدود في طريق مثلي إلى الجامعة. حتى وصلت بعد سبع سنين من المكابدة والعذاب من الباب الموصد لمدرسة المعلمات بالمنصورة إلى باب الجامعة، أحمل شهادة (البكالوريا أدبي) التي ظفرت بها صيف 1934م مع قلة من الناجحين من منازلهم ..”. ([5]).
ولم تستطع عائشة عبد الرحمان الالتحاق بالجامعة إلا في السنة التي بعدها بسبب القوانين التي كانت تحول دون ذلك. والتحقت بكلية الآداب لتتحصل على شهادة الليسانس سنة 1939م، ثم نالت الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام1949م .
وأثناء دراستها تزوجت من أستاذها أمين الخولي، الذي كان له دور كبير في تقدمها في المسار العلمي الذي بدأته، وقد أنجبت منه ثلاثة أولاد، ولم يثنيها ذلك عن مواصلة تعليمها؛ إذ حصلت بعد ذلك على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز والتي ناقشها طه حسين.
لقد كانت مسيرتها العلمية قبل تعرفها على أمين الخولي صعبة بسبب التقاليد والخوف الأبوي، لكن الرجل الذي كان حريصا على أخدها للعلوم الشرعية وخائفا عليها من التعليم المدني، والذي يبدو ظاهرا أنه كان من العراقيل في حياتها العلمية كانت كثيرا ما تفتخر بالعلوم التي حرص على تعليمها لها، وقد أصبحت تفتخر وتعتز بها وترى أنها هي التي أعطتها الحصانة أمام إغراء المدينة، ونلمح اعتزازها بهذا الوالد من خلال بعض إهداءات كتبها ففي كتاب: “مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح” تقول: “إلى من أعزني الله تعالى به أبا تقيا، زكيا ومعلما مرشدا ورائدا أمينا ملهما وإماما مهيبا قدوة: والدي العارف بالله العالم العامل: محمد بن عبد الرحمان الحسيني. نذرني -رضي الله عنه- لعلوم الإسلام، ووجهني من المهد إلى المدرسة الإسلامية، وقاد خطاي الأولى على الطريق السوي، يحضني بمناعة تحمي فطرتي من درائع المسخ والتشويه.” ([6]).
ترقت عائشة عبد الرحمان في درجات العلوم إلى أن بلغت أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة عين شمس، وعملت أستاذا زائرا لجامعات أم درمان والخرطوم في السودان 1967م، والجزائر 1968م، وبيروت 1972م، وجامعة الإمارات 1981م، وكلية التربية للبنات في الرياض 1975-1983م، ودرست التفسير لطلبة الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة القرويين، وقد استمر تدريسها بهده الجامعة ما يقارب العشرين سنة ([7]).
وشغلت عائشة عبد الرحمان عضوية مجموعة من الهيئات الدولية المتخصصة والمجالس العلمية مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميةبمصر، والمجالس القومية المتخصصة، والمجلس الأعلى للثقافة، وكانت أيضا من أعضاء هيئة الترشح لجوائز الدولة التقديرية بمصر ([8]).
حصلت عائشة على مجموعة من الجوائز منها:
– جائزة الدولة التقديرية للأدب في مصر سنة 1978م
-جائزة الحكومة المصرية في في الدراسات الاجتماعية والريف المصري عام 1956 م.
– ووسام الكفاءة الفكرية من المغرب.
– وجائزة الأدب من الكويت عام 1988م
– وجائزة الملك فيصل للأدب العربي مناصفة مع الدكتورة وداد القاضي عام 1994م ([9]).
وتوفيت عائشة عبد الرحمان يوم الثلاثاء 11شعبان 419هـ الموافق ل 1 ديسمبر 1998م عن عمر 86 ([10]).
صلتها بالكتابة ومؤلفاتها:
كانت عائشة عبد الرحمان عالمة في العلوم الشرعية وأديبة متمرسة لها كتابات كثيرة، تدل على عمق تفكيرها في العلوم الشرعية والفكر الإسلامي، كما أنها تميزت بذوق أدبي رفيع أنتج دراسات أدبية وقصصا، وأشعارا تفتخر بها مكتبة الأدب العربي، وترجع علاقة عائشة عبد الرحمان بالكتابة إلى سن الثامنة عشر إد بدأت تكتب في صحيفتي البلاغ وكوكب الشرق ومجلة النهضة النسائية التي تتحمل مسؤولية تحريرها ومجلة الأهرام، وكانت تكتب تحت اسم مستعار: بنت الشاطئ، تقول: “فكرت في التستر وراء اسم مستعار لئلا يعلم أبي بالأمر، فيغضب وينكر ويصدر قرارا يحرم فيه علي مكاتبة والاتصال بها، وذلك ما لم تكن تقاليد البيئة والجيل تسوغه لحريم النساء. ولم يطل بي التفكير في اختيار الاسم المستعار، بل كان أول ما خط على بالي هو أن أنتمي إلى الشاطئ، مهد مولدي وملعب طفولتي ومدرج حداثتي ومجلى تأملاتي([11]). وبعد ترقيها في العلم أنتجت مجموعة كبيرة من المؤلفات؛ ومن هذه المؤلفات.
-التفسير البياني للقرآن الكريم
– مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح.
– الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق.
– القرآن والتفسير العصري.
– القرآن وقضايا الإنسان.
– مقال في الإنسان، دراسة قرآنية – أعداء البشر – مع المصطفى صلى الله عليه وسلم – أرض المعجزات ، رحلة في جزيرة العرب
-تراجم سيدات بيت النبوة – نساء النبي – بنات النبي – السيدة زينب عقيلة بني هاشم رضى الله عنها – أم النبي عليه الصلاة والسلام – سكينة بنت الحسين.
في المجال الأدبي:
الريف المصري – سر الشاطيء – امرأة خاطئة ( مجموعة قصص) – رسالة الغفران واللغوي-مقدمة في المنهج – الخنساء الشاعرة العربية الأولى – رابعة العدوية- على الجسر- الريف نص محقق – تراثنا بين ماض وحاضر – الصاهل والشاجح نص محقق لأبي العلاء المعري – الغفران دراسة نقدية – قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر – صور من حياتهن –قصة سيد العزبة .
المرأة في فكر عائشة عبد الرحمان:
اهتمت عائشة عبد الرحمان بقضايا المرأة انطلاقا من التجربة التي عاشتها في مسيرتها التعليمية، فاهتمت بالمرأة مند بداية كتابتها للقصص في سن الثامنة عشر إذ كانت أغلب القصص التي كتبتها تتحد ث عن المرأة الريفية -بخاصة -وما كانت تعانيه من حرمان التعليم، وسيطرة التقاليد على المفاهيم السائدة. وكتبت كتاب – صور من حياتهن – تصور فيه معاناة المرأة، ثم تطورت هذه الكتابة لتتضح أكثر في تبنيها للكتابة التاريخية عن الرسول – صلى الله عليه وسلم، في كتابها مع المصطفى، وكتاب سيدات بيت النبوة، ونساء الرسول –صلى الله عليه وسلم- … لم يكن هذا التأريخ الخاص ببيت النبوة عبثا، وإنما كان يهدف إلى إيضاح كيفية تعامل الرسول –صلى الله عليه وسلم -مع الحياة ومع المرأة، ودور المرأة في التاريخ الإسلامي.
حاربت الدكتورة عائشة تحرير المرأة المنطلق من المفهوم الغربي،كاشفة النقاب عن خفايا حركة التحرير التي حدثت في مصر فهي ترى أن الحرية ليست بمعنى التحلل؛ تقول في كلمات مسؤولة تعبر عن شخصية امرأة تشبعت بالثقافة الإسلامية الصحيحة: الحرية قيود، وكلما كثر إدراكي لحريتي كلما كثر شعوري بالقيود، أنا مثقلة بالقيود ومكبلة بها، لكنها قيود مسؤولية قيود حرية([12]).
وتعتبر عائشة عبد الرحمان حركة تحرير المرأة مهزلة أليمة، فتقول: (إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم، وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا ذلك أن الرجال وهبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم، ولكنهم كذبوا في هذه المزاعم، فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم) ثم قالت بنت الشاطئ: (إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنًا للتطور، ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطإ الأكبر الذي شوه نهضتنا وأعني به انحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفّعها عن التفرغ لما تسمّيه خدمة البيوت وتربية الأولاد.. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن. أما الأبناء فتركوا للخدم وقد نشأ هذا الانحراف الضال نتيجة لخطإ كبير في فهم روح النهضة، وبلغ من سوء ما وصلت إليه أن نادت بحذف نون النسوة في اللغةكأنما الأنوثة نقص ومذلة وعار وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن من يسأل كيف تعيش أمة بِرئة معطّلة؟ يقصد بالرئة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد. ([13]).
لم تكن عائشة عبد الرحمان ترى في العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة صراع وإنما كانت ترى أنه يجب أن يكون هناك تكامل بينهما، وقد كانت حياتها مع زوجها حياة مستقرة فتحت لها آفاق العلم والمعرفة، وحين نراجع إهداءات كتبها نلاحظ قيمة ذلك الرجل العالم في حياتها أنظر مثلا:
إهداء كتاب على الجسر بين الحياة والموت، تقول: “وتجلت فينا ولنا وبنا، آية الله الكبرى الذي خلقنا من نفس واحدة فكنا الواحد الذي لا يتعدد، والفرد الذي لا يتجزأ، وكانت قصتنا أسطورة الزمان، لم تسمع الدنيا بمثلها قبلنا، وهيهات أن تتكررإلى آخر الدهر.” ([14]).
إهداء كتاب مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح:
تقول :”وإلى شيخي الإمام الجليل الأصولي : الأستاذ أمين الخولي.
الذي أدين له بتأصيل المنهج وترسيخ جذوري في المدرسة الإسلامية، وما علمني من أصول مناهجا وذخائر تراثها، ما أحقق به وجودي العلمي.”([15]).
تقول في إهداء كتاب: القرآن وقضايا الإنسان، وكتاب مقال في الإنسان
إلى أمين الخولي الإنسان ….
صحبته في رحلة الحياة فتجلت لي فيه آية الإنسان.
بكل عظمته وشموخه وكبريائه، وجبروت عقله ومرهف حسه وعزة ضميره …
ثم مضى، فعرفت منه وفيه، مأساة الإنسان بكل هوانه وضعف حيلته وقصور طاقته وفيما بين حياته وموته أرهف حسي بقصة الإنسان من المبتدأ إلى المنتهى.
كل هدا يوحي بالدعم المعنوي القوي للرجل الزوج في حياة عائشة عبد الرحمان.
ثانيا :العالمة هند شلبي:
عالمة تونسية تنحدر من أسرة متدينة متعلمة، زاوجت في تعليمها بين التعليم المدني، و التعليم الديني؛ فالتحقت بالكلية الزيتونية، و تعلمت على كوكبة من العلماء منهم: والدها الشيح سيدي أحمد شلبي، والشيخ سيدي أحمد بن ميلاد والعلامة محمد الفاضل بن عاشور عميد الكلية ومفتي الجمهورية، والعربي العنابي ومحمد الشاذلي النفير وأحمد مهدي النيفر وعبد العزيز بن جعفر، ومحمد الحبيب بن الخوجة وعبدالعزيز بن جعفر وبلقاسم بن جعفر والحبيب المستاوي وقد رحلوا كلهم إلى دار البقاء. ([16]).
التحقت هند شلبي بالكلية الزيتونية في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وكانت الدراسة فيها مسائية، تبدأ في الساعة الرابعة بعد الظهر لتمتد إلى الساعة الثامنة مساء كل يوم إلا يوم الجمعة لتستأنف يوم السبت مساء وصبيحة يوم الأحد من الثامنة صباحا إلى منتصف النهار . وكان الٌإقبال على هذه الدراسة قليل لانسداد الآفاق أمام خريجي الكلية، بسبب النظام العلماني السائد في البلاد وكانت هند شلبي المرأة الوحيدة التي تدرس بهذه الكلية. إلى أن تحصلت على الدكتوراه في العلوم الشرعية، وكانت تقضي أغلب وقتها في البحث والتنقيب بالمكتبة الوطنية في مقرها القديم بالعطارين بعدما أصبحت أستاذة بالكلية التي درست بها.
اهتمت هند شلبي بخدمة كتاب الله فحققت كتاب “التصاريف“، وتفسير يحي بن سلام التميمي البصري القيرواني المتوفي سنة 200هـ، والذي عده العلماء الحلقة المفقودة في التفسير بالمأثور ، ومن أهم كتبها أيضا كتاب “التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق” وكتاب : “القراءات بشمال إفريقيا”.
لقد كانت هند شلبي مرابطة بالمكتبة الوطنية بالعطارين لا تبخل على من يقصدها للفائدة العلمية، وقد تشرفت بالجلوس إليها في هذه المكتبة حين كنت أنجز بحث: “الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مذهبه وآراؤه العقدية” فأرشدتني إلى المجلات التي كان يكتب بها ابن عاشور، وأهدتني نسخة من كتابها: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق.
كانت هند شلبي أول امرأة ترتدي الحجاب بتونس متحدية بذلك الرئيس بورقيبة، إلا أنها وبعد صدور القرار الذي ينص على منع ارتداء الحجاب ، أبدلته بالسفساري وهو زي تقليدي، وقد كانت تشده و تلفه بكيفية تسهل الحركة ويتحقق بها الستر الشرعي المطلوب، وكان يسميه محمد الشاذلي النيفر الزي الشلبي ([17]).
التحدي والصمود:
كانت هند شلبي بلباسها الشرعي متحدية للنظام الطاغي، ومن المواقف التاريخية التي بقي يتناقلها الناس بإعجاب واحترام رفضها مصافحة الرئيس بورقيبة، ففي إحدى المناسبات من سنة 1975م ألقت هند شلبي محاضرة بحضور رئيس الجمهورية ورجال الدولة وأعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي وثلة من رجال العلم والثقافة، وكان بورقيبة يعتبر التجربة التونسية في التعامل مع المرأة استثناء ويتحدث في كثير من خطاباته عن أن المرأة المحرومة في البلاد العربية الأخرى من حقوقها، تحظى في تونس بحقوق تضاهي نظيراتها الأوروبيات منذ عام 1956م؛ حين أقر قانون الأحوال الشخصية. بيد أن بورقيبة كان على موعد مع مفاجأة صادمة، حيث هاجمت المحاضرة مفاخر النظام من حيث تحرير المرأة، ومنع تعدد الزوجات، وتنظيم الطلاق، والإفطار في رمضان، بل ووصفتها بالمناقضة للدين، وانتهت بالدعوة للعودة إلى منابع الدين الأصيلة. جُنّ الرئيس مما حدث، وتساءل كيف أمكن لهذه المحاضرة أن تقول ما قالت من دون أن يدقق في خطابها أحد قبل القدوم، ولكن قيل للرئيس إن هذه الآراء منتشرة بين جيل الشباب في الجامعات ([18]).
لقد أعطت هند شلبي مثالا رائعا للمرأة المسلمة التي لا تستسلم للعراقيل الواقعية، وتحدت كل الظروف إلى أن نالت أعلى المراتب العلمية، وتخرج عليها كثير من أبناء تونس إلى أن بلغت سن التقاعد.
الخاتمة:
من خلال عرض حياة عائشة عبد الرحمان وهند شلبي ندرك أن التحديات لا تميت انطلاق المرأة، بل تزيدها إرادة وإصرارا على المضي من أجل تحقيق أهدافها، والمرأة المسلمة إذا ملكت ناصية البيان، وأسباب التفوق العلمي لا يمكن لتقاليد المجتمع ولا للطغيان السياسي الوقوف في طريقها، والرجل الذي قد يكون سببا في عرقلة مسيرة امرأة إلى النجاح أبا قد يكون هو السبب في تفوقها الأدبي والعلمي زوجا.
التهميش
([1])-عائشة عبد الرحمان ، على الجسر بين الحياة والموت –الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986-ص 23، 24
([2])-خليل، أحمد (2001). موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين. ص 753
([3])-عائشة عبدالرحمان ، على الجسر ،ص24
([4])-عائشة عبد الرحمان ، الطريق الوعر(لوحة قصصية ، مجلة الهلال، القاهرة، ع 6 س 57، يونيو 1956 ص 55.
([5])-عائشة عبد الرحمان ، على الجسر ،ص 81
([6])— عائشة عبد الرحمان ، مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح ، -دار المعارف ،القاهرة – راجع الإهداء
([7])-موقع مكتبتنا العربية ، من مكتبة الدكتورة عائشة عبد الرحمان
([11])-عائشة عبد الرحمان ، على الجسر بين الحياة والموت ص 80
([12])-حوار مع عائشة عبد الرحمان وسعاد الصباح ذاكرة bbc إذاعة الحلقة التاسعة عشر
([13])-عائشة عبد الرحمان، نقلا عن: محمد حامد، قراءة في فكر النخبة، دار دروب للنشر والتوزيع والترجمة : 2019.ص 100.
([14])-عائشة عبد الرحمان ، على الجسر بين الحياة والموت
([15])-عائشة عبد الرحمان ، مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح
([16])–الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي الأستاذة هند شلبي العالمة الزيتونية المختصة في العلوم الشرعية – موقع الإسلام حقائق وأعلام ومعالم، اللإقنين 18آدار مارس 2013-
([17])-جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 17 رجـب 1433 هـ 6 يونيو 2012 العدد 12244
([18])-المستاوي،الأستاذة هند شلبي العالمةالزيتونية المختصة في الدراسات القرآنية،موقع الإسلام حقائق وأعلام ومعالمالاثنين 18 آذار (مارس) 2013المستاوي