سُلْوان القارئ : حماية التراث … كيف تكون ؟
إن التراث في أمتنا أصلٌ ترتكز عليه فلا تميد، ومنارة تهتدي به فلا تضل ولا تشقى، ومنبع ترتوي منه فلا تظمأ أبدا، ولما كان التراث بهذا المقام وجب على الجيل أن يحفظ مقامه، وأن يدرك خطورته، وأن يحتمي بجُدُرٍ وأسوارٍ تكون وقاية لنفسه ولتراثه أن يلحقه تشويهٌ أو تزييف
فأوَّل سورٍ يجب على الجيل ابتناؤه : سور اللغة العربية، لأن النفوذ إلى معاني القرآن إنما يؤتى من الفقه العميق في اللسان العربي، والمراد باللسان العربي كل العلوم التي تفرّعت عنه من نحوٍ وصرف وبلاغةٍ وعروض وما إليهم، والسبيل إلى هذا من طريق الأئمة المتقدمين –لا غير – ألئك الذي فتقوا هذه العلوم من القرآن كأمثال الخليل وسيبويه وابن جنّي وابن فارس والجرجاني والزمخشري وغيرهم، فهم أهل الشأن وأهل الاختصاص، والاعتياض عنهم بغيرهم من المُحدَثين حيفٌ وضلال؛ نهايته الجهل والاستكثار بما لاينفع إلا قليلا، وهذا ما تراه عيانا في هذا الجيل حين استزلّهم الغرب بعلومهم حتى استثقلوا علوم الأولين وهجروها واحتقروها، وإنما غرّتهم الأسامي والمصطلحات، فأعطوها فوق حقها، ونسوا أن للعربية خصائصَ تنفرد بها عن غيرها من اللغات، ولها علومها التي تخدمها لوحدها دون غيرها، لقداسةٍ كامنةٍ فيها لا تشترك فيها مع غيرها، وأما مطلق النفع فلا يُنكر، فالحكمة ضالة المؤمن؛ على أنه يجب ألا تطيلوا المكث عندهم، وعودوا إلى تراث الأولين سِراعا، ولأمرٍ ما؛ نصح الرَّافعي طالبَ العربية أن يُمعن النظرَ في كشاف الزمخشري!
ولو أردت مثالا عن الهجران المؤلم، فانظر إلى كلام أبي سليمان الخطابي حين قال : وإنما يقوم الكلام بأشياء ثلاثة : لفظٍ حامل، ومعنىً به قائمٍ، ورباطٍ لهما ناظم. إ.هـ
يقول الدكتور عبد العزيز حمّودة ردًّا على الحداثة وأهلها ومعلقا على كلام الخطابي : أليس هذا في إيجازٍ مثيرٍ للعجب جوهر “محور الاستبدال” ؟ وهكذا؛ وفي بضعة أسطر فقط؛ يقدم عقل عربي مبكّر جوهرَ محوريْ “التعاقب والاستبدال” اللذين يفتتن بهما – الحداثيون العرب – في المصادر الأجنبية الغربية .إ.هـ
ولحماية السنة النبوية الشريفة شرع علماء المسلمين في بناء سدٍّ مُحكَم لا يوجد مثله في الأمم التي تروم حماية مُعتَقدها، فاستحكم علماؤنا حلقات “علم مصطلح الحديث” حتى صار إلى ما هو عليه من الحكمة والإتقان، وهو السور الثاني الواجب على الجيل الاحتماء به، والسند خصيصة الأمة التي يستوجب المفاخرة بها، مصداقا للإعجاز النبوي ( تَسْمعون ويُسمع منكم ويُسمَع ممن يَسمَع منكم) وهذا شيءٌ لا يوجد إلا في أمتنا،، من أجل ذلك تجد بعض المُحدِّثين يجيزون بالجمع، وربما أجازوا البلدة كلها، إنما يريدون بذلك المحافظة على هذه الخصيصة “السند” التي يزهد فيها هذا الجيل للأسف. وتفرّع عن هذا علومٌ كثيرة كعلم الرجال وتاريخ الرواة وعلم الجرح والتعديل وعلم العلل ومُختلَف الحديث وناسخه ومنسوخه، حتى استقلَّ كل علمٍ بنفسه من قوته وحكمته…وهذا الجيل زاهدٌ في الاطلاع على قراءة دواوين السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وغيرها من كتب الرجال والعلل ..وهذه الكتب هي الحصون التي يخشاها زنادقة الحداثة، وهي العلوم التي يغار منها المستشرقون أيضا، وكانت حائط الصدّ الذي منعهم من تشويه الأحاديث، فلما استيأسوا منها؛ ولجوا إلى هذه العلوم بتمرُّسها، فدونك “المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف” فإنما صنعه (فِنْسك) وأصحابه لأنفسهم ابتداءً لا حبًّا في السنة النبوية، وعلى هذا الجيل أن يحتمي بما صنعه له العلماء وأن يتسلح بهذه العلوم التي عرف القدر غربها، فلا يكون أكيس منّا ..!
ولذا تجد بعض الزنادقة يتسوّرون صحيح البخاري خاصة، وكتب السنة عامة، ليطعنوا فيها، ويظهروا اختلاف السنة عن القرآن ومعارضتها له – وإنما أوتوا من أفهامهم السقيمة والنصوص بريئة منهم-
ولأن القرآن مكتنز بالعلوم – ومثله السنة – … ، تَكَوَّن مع مرور الأيام السور الثالث : “علم أصول الفقه” وقد سمّاه بعض العلماء : “أصول الفهم الصحيح” وهو: الصورة الجبّارة للعقل الإسلامي التي توفِّق بين النصوص التي ظاهرها التعارض، مما يتخذها الزنادقة مطية للطعن في الوحي، وتأصيل عملية الاجتهاد بامتلاك أدواته التي وضعها أهل العلم، فليس الأمر بالتشهي وإتباع الهوى، فنصوص الوحي أصولٌ عامة تشمل كل الجزئيات والحوادث غير المتناهية، ولابد من قواعد عامة تحتملها، يقول ابن تيمية : (لابد أن يكون مع الإنسان أُصولٌ كلية تُرَدُّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلمٍ وعدل ، ثم يعرف الْجزئِيات كيف وقَعت. وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الْكُلِّيَّاتِ، فيتَوَلَّدُ فسادٌ عظيم) إ.هـ
كان علماؤنا يثوِّرون النصوص، ويُفردون بعض الأحاديث بالتأليف فتتفجر عن أنهارٍ من الفوائد، فهذا حديث ذي اليدين في سجود السّهْو يقول عنه الصنعاني : اعلم أن هذا الحديث جليلٌ غزيرُ الفوائد، أطنب الحافظ ابنُ عبد البرّ وغيره في الكلام عليه وأفرده بالتصنيف:الحافظ العلائي.. وأوصلَ أبو بكر بن العربي فوائده إلى 150 فائدة !!
يقول الإمام القرافي : ” لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير .. فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة ”
وقواعد الأصول مجموعة من الضوابط العقلية واللغوية التي توجِّه النصوص توجيها سليما، وتنفي عنها التعارض فيما يبدو للناس، وحتى الحداثيين لا يستطيعون مناقشتها لإحكامها وسلامتها، فلما وجدوها كذلك واستغلِقت عليهم؛ عمدوا إلى شخص الشافعي محمد بن إدريس المُطَّلبي، فاستهانوا به واحتقروه؛ وربما رموه بالجمود، لأن تحطيم الرموز يوَهِّن العلوم التي أسسوها، والشافعي رمزٌ، فقد نصر خبر الآحاد، وجعل السنة في مقامٍ واحد مع القرآن في الاستدلال، ومن أجل ذلك لُقِّب بناصر السنة – رضي الله عنه –
أما السور الرابع فلا يمكن بحالٍ الاستغناء عن السيرة النبوية وما إليها من المغازي، يقول عبد الله بن المسعود رضي الله عنه : كنا نعلم أبناءنا السيرة كما نعلمهم السورة من القرآن، ومعرفة تفاصيل حياة النبي صلى الله عليك وسلم تعظِّمه في نفسك فتجبُن عن الجرأة على جنابه المقدس، وفي سيرته أنوارٌ ومنارات تهتدي بها في خاصة حياتك، وتواجه بها اعتراضات المستشرقين، فإن أضفت إلى هذا تراجم العلماء، شُحِذت همّتك واتَّقدت، يقول عبد الله بن المبارك عن – تراجم العلماء- : إنها جندٌ من جنود الله، فإنها تُبين عن الأزمات التي تعرّض لها العلماء وأي معاناة اعترضتهم وهم يجمعون لك هذا العلم شهدًا مصفَّى لتكمل المسير وتحافظ عليه؛ لا لتنبذه وراءك وتتخذه سخريا
والحسرة الكبرى التي تمزِّق نياط القلب :إذا علمت أن كثيرا من تراث أمتنا قد ضاع فلا سبيل إلى استرداده، فقد ضاعت كل كتب الخليل بن أحمد وهي خمسة، فلم يبق منها شيءٌ، مع أنه المؤسس الحقيقي للمعجم والعروض، ولولا تلاميذه لضاع علمه، وضاعت كل كتب المدائني وهي تسعون كتابا، فلم يبق منها إلا مرويات الطبري عنه في تفسيره، والأصفهاني في أغانيه وغيره، مع أنه كان من أعلم الناس في باب السيرة والمغازي ، وهذه أمثلة تمزّق القلب حقيقةً، ولو طالعت الفهرست لابن النديم لطالعت عجبا من الأعلام ضاع نِتاجهم ..أولا تستدعي هذه الأخبار شوق هذا الجيل لتراثه !؟
وبعدُ : فعلى هذا الجيل أن يستحكم هذه العلوم الأربع، ويجعلها الأسوار والجدُر التي تحمي الإسلام من غوائل الزنادقة من الحداثيين والمستشرقين، وتدرأ عن القرآن شُبههم، وكلما استحكمها وأتقن استعمالها وعرف كيف يمتح بها ومنها الدرر، ويثوَّر بها العلوم، كانت طريقه إلى الرسوخ في العلم، وليحذر من هذا “الإغراق الأكاديمي” الذي تسلطه الجامعات على عقول الطلبة، فإنه شيءٌ مُمَنهجٌ من مكر الغرب، ليغرقوا طلبة العلم في شكليات البحث فلا يتجاوزونها، وعلى هذا الجيل أن يطمح لأن يكون له من قول ابن القيم نصيب: ( إنَّ الراسخَ في العلم لو وَرَدَتْ عليهِ من الشُّبَه بعدد أمواج البحر ما أزالت يقينَهُ، لأنَّه قد رسخ في العلم؛ فلا تستفِزُّهُ الشُّبهاتُ، بل إذا وردت عليه ردَّها “حَرَسُ العلم وجيشُه” ) وليضع نصب عينه أن كل العلوم تفجّرت من القرآن أنهارًا، فمنه صدرت وإليه تَرِد، قال تعالى : (فأين تذهبون) يقول الطبري في تأويلها : فأين تذهبون عن هذا القرآن، وتعدِلون عنه؟
والسلام
وكتب المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير
بوركتم