زينب عبد العزيز هِمَّةٌ وجهاد
زينب عبد العزيز هِمَّة وجهاد
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، أما بعد : فإن الحديث عن العلم حديثٌ مستديم لا ينقطع،، ما دامت أمتنا ولودًا ، ومنذ أنزل الله كتابه وأمر بالقراءة وأمتنا مرتهنة بهذا الأمر تعلو به وتسفُل من دونه، والعلم منه ما هو عُقدٌ، ومنه ما هو مُلَحٌ.
وعُقَد العلم ركيزته ومُركَّزه ومُحكمَه، لايستطيع عليه إلا رجالٌ بذلوا مُهجهم وأنفقوا أوقاتهم بجلدٍ شديد في تحقيق مسائله، ومَتح درره، وغالبُ هذا المجال لا يقتحمه النساء؛ فلا يلائم طبعهن، فكأنهن خُلقن لمُلح العلم، بَيد أن بعض النساء من صنعن الفارق، فزاحمن الرجال، وربما فُقن الرجال في هذا المجال، وهذا الأمر ليس استثناءً كما قد يُتبادر إلى الذهن، بل الأمر راجعٌ إلى انصراف النساء عن العلم لطبيعة حياتهن الخاصة، وما وُكِّل إليهن من مهام يجعلهن أقلَّ اهتمامًا بالعلم، وإلا؛ فالتاريخ يحفِل بنساءٍ صنعن الفارق فاستحققن الثناء بكل خير يقول وليم جيمس من علماء علم النفس الحديث: “إن الفرق بين العباقرة وغيرهم من الناس العاديين ليس مرجعه إلى صفة أو موهبة فطرية للعقل، بل إلى الموضوعات والغايات التي يوجهون إليها هممهم وإلى درجة التركيز التي يسعهم أن يبلغوها”؛ولئن قلَّ في النساء العزم لكنه لم ينعدم، فهذه بلقيس شرَّفها الله بالذكر في القرآن لحلمها ورجاحة عقلها، وكانت في بداية الإسلام خديجة أم المؤمنين- رضي الله عنها- حيث نصرت الإسلام واحتملت الدعوة التي لم يحتملها أحد.
وعائشة – رضي الله عنها- كانت راوية للحديث إذ حفظت لنا شطر الدين؛ قال عنها الحافظ ابن حجر أنها حفظت ربع أحكام الشريعة! وكانت فقيهة تستدرك على الصحابة وقد جمع الزركشي استدراكاتها. وذكرت السيرة ما كان من عقل أمِّ سلمة -رضي الله عنها- يوم الحديبية، وروت كتب الحديث أن أمَّ الدرداء- رضي الله عنها- كانت تجلس في الصلاة جلسة الرجل، وكانت فقيهة! وحفصة وجويرية وأسماء بنت عميس رضوان الله عليهن، وغيرهن كثيرات، ومن المحدثات كريمة المروزية وهي من رواة صحيح البخاري، وحتى التاريخ حفظ لنا رجالًا تتلمذوا على النساء، فقد لُقِّب ابن حزم بربيب النساء لكثرة شيخاته، وكان ابن حجر العسقلاني مثله، وكان للحافظ بن عساكر سبعون شيخة.
ولا تزال الأمة تلد النساء المتميزات يقتحمن كلّ فن ينافسن الرجال ليُظهرن أن الأمر ليس محض استثناء، فهذه سكينة الشهابي- رحمها الله- تخصَّصتْ في كتب التاريخ والتراجم فكان منها عملها المحقق المتقن لتاريخ ابن عساكر، وتاريخ أبي بشر هارون بن حاتم، ولا يخفى أمر النساء الوافدات على معاوية -رضي الله عنه- وغير ذلك.
ومن البارزات في العصر الحديث الدكتورة وداد القاضي وقد شهد لها بالتمكن والتحقيق أستاذها إحسان عباس، وكان لها تحقيق البصائر والذخائر، والإشارات الإلهية للتوحيدي، والكيسانية في تاريخ الأدب، والدكتورة خديجة الحديثي التي ألَّفتْ أكثر من كتاب حول سيبويه، وفوقية حسين التي حقَّقت الكافية للجويني والإبانة للأشعري، وسعاد الحكيم التي ألَّفتْ معجمًا في التصوُّف. وممن طالعت عملهن الأستاذة المعاصرة كاملة الكواري في كتابها تسلسل الحوادث، وقد ذكر مُقدِّم الكتاب سفر الحوالي أن هذا مجالٌ صعبٌ من العلم.
أما في القرآن وتفسيره وما يتعلق به: فأجدني لا أغفل ( بيكم) ابنة الشاه محيي الدين أورنك زيب عالمكير سلطان الهند التي كانت حافظة لكتاب الله مفسرة له، وتفسيرها يقال له: زيب التفاسير؛ أي أحسن التفاسير. وقد قيل: إن تفسيرها هو ترجمة لتفسير الرازي (مفاتيح الغيب) إلى الفارسية، وقيل: بل أمرت الشيخ صفي الدين الأردبيلي الكشميري بالترجمة.
ولعل عائشة بنت الشاطئ ممن اختصّهن الله لخدمة القرآن مع جانب التحقيق كما تراه في رسالة الغفران والصاهل والشاحج للمعرّي، والتفسير البياني للقرآن الكريم ، وغيره ممّا أسهمتْ به في إثراء المكتبة الإسلامية.
ومن القليلات الدكتورة المعاصرة أستاذة الأدب الفرنسي: زينب عبد العزيز – حفظها الله وأطال بقاءها على طاعته – صاحبة أحدث ترجمة للقرآن إلى اللغة الفرنسية، وهي متخصصة في الرد على النصارى بدقةٍ وعلمٍ مَكين.
والحديث عنها حديثٌ يسري بين الأرواح؛ فتدركه القلوب فتنتفض مُتفزِّعةً قلقةً لا تهدأ حتى تأخذ منها نصيبًا موفورًا .وبمثل الدكتورة المجاهدة زينب عبد العزيز فُضِّلت النساء على كثيرٍ من الرجال .
إن فجرها يتنفس دَأَبًا عن مَتحٍ للعلم شديد، وإن ليلها يُرخي سدله عن همّةٍ متَّقدة لا تعرف خُبُوًّا ولا سكَنًا، كأنّ ليلها بنهارها موصول؛ إذا بزغت الشمس قامت شامخةً تحمل القلم كما يُحمل السيف، وإذا غربت طلع قمر همّتها.. فهي أبدًا يقظة مُتحذِّرة؛ كأنها تخشى شيئًا على هذه الأمة من كيد النصارى خاصّة؛ فسدّت على الأمة ثغرًا عظيمًا، وكفتها شرًّا مستطيرًا ..وأي قيام كقيامها إذ حرست أعظم بابٍ للأمة، وهو باب التوحيد.
مَن لي بِمثل سيرك المُدلَّل تمشي رُويدًا وتجي في الأوَّل
وتكاد تكون منفردةً في همّتها؛ تراها تجتهد في الردِّ على النصارى بلا كللٍ أو ملل، وتتابع أخبارهم وتحركاتهم دون أن تهاب مكرهم، مع سابق علمها بكيدهم. لكن إذا قويَ القلب واعتمر الجنان بحب الله والدفاع عن دينه، كانت الأعضاء خادمات؛ فقامت لله مستعينة به باذلةً مهجتها لا تلوي على شيء؛ فكأن كل الكاتبات شجرة وهي الثمرة، لاشتغالها بحماية القرآن، وإن أعظم ما في الوجود مما هو من صفات الله: القرآن، فمن اشتغل به نال من بركاته على قدر اجتهاده، والرادُّ على النصارى له نصيبٌ من فاتحة الكتاب إذ هو من أهل الصراط المستقيم غير المغضوب عليهم من أمة الغضب اليهود، ولا الضالين من مُتدَهِّرة المُثلِّثة عُبّاد الصليب، وهذا هو الجهاد بعينه، يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:
” قِوام الدين بالعلم والجهاد؛ ولهذا كان الجهاد نوعين، الأول: جهاد باليد والسنان؛ وهذا يشارك فيه الكثير. والثاني: الجهاد بالحُجَّة والبيان؛ وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدَّة مئونته، وكثرة أعدائه، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ فهذا جهادٌ لهم بالقرآن وهو أكبرُ الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضًا، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ ومعلومٌ أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن”.
ويكفينا تعبيرًا عن مكانة الدكتورة زينب أن نُهدِي إليها العدد السابع عشر من مجلة الربيئة، وقد شارك فيه كتّاب مختلفون من الجزائر والمغرب والعراق ومصر بمقالات متنوعة في مباحث مُتفرِّقة، عن المرأة المسلمة ومؤسسة الأسرة، والمرأة والرجل في الإسلام، والشورى، والوسطيَّة، والفِكر السامي.
وجاء في مقدِّمة هذه المقالات مقال الباحث المعجميّ والمحقِّق اللغويّ الدكتور المصريّ محمد جمعة الدِّربي بعنوان (كَبْوة سيبويه وغَيْرة زينب عبد العزيز)؛ حيث تناول بالعرض والتحليل والنقد مقال (كبوة سيبويه) الذي نشرتْه الدكتورة الفاضلة زينب عبد العزيز على موقع صيد الفوائد ردًّا على الكاتب المصريّ شريف الشوباشي الذي هاجم الفصحى ودعا إلى اختلاق لغة جديدة سهلة، وادَّعى أن اللغة العربيَّة قضتْ على اللغة القبطيَّة التي كانت سائدة في مصر قبل الفتح الإسلاميّ لمصر، وغير ذلك من آراء عرضها الشوباشي في كتابه(لتحيا اللغة العربيَّة يسقط سيبويه)! وقد كشف الدِّربيّ عن وعي الدكتورة زينب اللغويّ والسياسيّ، وفهمِها لمشكلات اللغة العربيَّة وقضاياها، وما تمتلكه في كتاباتها من رصيد لغويّ من فصحى التراث وفصحى العصر وعاميَّة المثقَّفين. وقد حرص الدكتور الدِّربيّ على مقارنة المقال المنشور في موقع صيد الفوائد بما أحدثتْه المواقع الأخرى من تعديلات في كلام الدكتورة زينب بحقّ أو بدون حقّ؛ وهذه لفتة مهمة من الدِّربيّ إلى خطورة المواقع الإلكترونيَّة، وضرورة الاعتماد على الموقع الأصليّ الذي يمثِّل لغة الكاتب والناشر. ولم يخلُ مقال الدِّربيّ من إشارات إلى مشكلات كتاب سيبويه، وكبوات المعاجم العربيَّة الحديثة.
ثم يأتي مقال الباحثة الجزائريَّة الأستاذة الزَّهرة هراوة بعنوان(الدكتورة زينب عبد العزيز، علم وفن وعطاء)، وهو مقال تعريفيّ يقدِّم سيرة ذاتيَّة توضح جهاد الدكتورة زينب عبد العزيز، ومسيرتها، وعطاءها المشرِّف لنساء عصرها…
وبعدُ : فليس مُرادي المبالغة في المِدحة، فأقع في المحظور، والدكتورة زينب أحبّ إلى قلوبنا من أن نقطع عنقها؛ وقد نهينا عن الغلوّ في المدح، وإنما تأويل مدحي : النعت بالصدق والثناء بالحق والتنويه بالجهد العظيم، وهذا هو الواجب المُحتَّم على من ذاق العلم، وأدرك قيمة ما يُبذل في سبيله، وأيقن أن ما تبذله صنفٌ من الجهاد هو صنوُ الجهاد الميداني…
صنعتنَّ ما يُعيي الرجالَ صنيعُه فزدتُنَّ في الخيراتِ والبركاتِ
والسلام
وكتب المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير