حياتي .. رحلة العلم والفخر – أ.بن يدة حبيب
تراجم
حياتي .. رحلة العلم والفخر
الدكتور الراحل أبو القاسم سعد الله -رحمه الله-(1يوليو 1930-14 ديسمبر 2013) هوشيخ المؤرخين الجزائريين بحق، ولو لم يكن في حياة هذا الرجل إلا موسوعته “تاريخ الجزائر الثقافي” لكفاه ذلك فخرا ونبلا، فهي موسوعة لو انتدب لها جمهرة من ألمع الباحثين لأعياهم الأمر، وأرهقهم البحث والتحري، فضلا عن عشرات المؤلفات التاريخية والأدبية الهامة، والتحقيقات والترجمات النفيسة.
أما آخر كتبه صدورا وظهورا فهو سيرته الذاتية التي نشرت بعد رحيله تحت عنوان: “حياتي” عن دار عالم المعرفة سنة 2015 م بدعم من وزارة الثقافة في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، وقد عاجل القدر فقيدنا فلم يسعفه ليتم مشروع مذكراته الذي قسمه إلى جزئين: الأول يبدأ من نشأته إلى غاية عودته إلى بلده الجزائر من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو هذا الجزء المطبوع، أما الجزء الثاني الذي فذلك الذي لم يستطع اتمامه وهو الذي يغطي ما بعد هذه المرحلة إلى آخر أيامه[1].
على أن الدكتور سعد الله -رحمه الله-ترك مؤلفا آخر ذا صلة بحياته وهو كتابه: “مسار قلم” وقد طبع منه سبعة أجزاء، وهي تركز على السرد لوقائع يومية للأحداث[2].
وفاء بشيء يسير من حق هذا الرجل الذي أفنى حياته خادما لأمته كأحسن ما تكون الخدمة رأيت من المناسب أن أنقل إليكم خلاصة تتضمن أهم ما استوقفني.
يقع الكتاب في 393 صفحة (+ ملحق الصور)، موزع على أربعة فصول:
الفصل الأول: من مولده إلى 1946.
الفصل الثاني: في تونس من 1947-1954.
الفصل الثالث: في القاهرة من 1955-1960.
الفصل الرابع: حياته في أمريكا ورجوعه إلى الجزائر 1960-1972.
وهذه أهم الأشياء التي رأيت اثباتها في هذا التلخيص على عجل:
- مولده: ولد في العام الذي تحرر فيه أهله من سكنى بلدة (قمار) وانتقلوا إلى بلدة (البدوع) وهذا اسم جميل أوحى إليه بالحرية والابداع وهما المبدآن اللذان أفنى حياته خادما لهما، شغوفا بهما، لا يكاد يتنازل عنهما حتى في أحلك الأوقات وأشدها ضيقا وعنتا.
- نشأ المؤلف -رحمه الله تعالى-في أسرة عازفة عن الطرق الصوفية، ومتأثرة بالحركة الإصلاحية التي انتشرت في “قمار” على يد الشيخ “عمار بن الأزعر”ثم ساهم في نشرها خاله الشيخ “الحفناوي هالي” وعديل والده الشيخ “محمد الطاهر التليلي”. ويعود السبب حسب المؤلف إلى عدم اقتراب أهله من أصحاب السلطة.
- أكثر الأشياء التي ميزت منطقة وادي سوف التي لقبت بـ”مانعة الهارب” هو حفاظها على اللسان العربي الفصيح خاليا من العجمة، وقد اعتبر المؤلف لهجة أهل سوف أقرب إل اللغة الفصحى من جميع اللهجات الأخرى. ص 49
- أبدع المؤلف -رحمه الله-في وصف نشأته وحياة أسرته، ونقل إلينا صورة صادقة دقيقة كشأن المؤرخ البصير في الإحاطة بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية … وهي حياة وصفها الظاهر هو العناء والفقر والقهر وبعض الآمال القليلة فقد قال بالحرف: “أول حفل عرفته عائلتنا كان يوم ختمي القرآن العظيم” ص60.
- في هذه البيئة القاسية ولد طموح المؤلف في مواصلة حياته العلمية، فالتحق بجامع الزيتونة في سنة 1947 حيث “كانت جالية أهل سوف تشكل أكبر عدد من الجزائريين في تونس” ص82. ومنها حصل على شهادتي: الأهلية، والتحصيل.
- من طرائق التدريس المتبعة في الزيتونة: أن يلقي الشيخ درسه ثم يملي مختصرات في الربع ساعة الأخير، وقد يتكلم ببطء فيكتب التلاميذ ما يريدون أثناء ذلك، مع تفاوت في أعمار التلاميذ، ومن الأشياء التي أثرت في ملكته الكتابية المطالعة الحرة خاصة في كتاب “السمير المهذب”. ص 85-86.
- من مشاهدات هذه الفترة: ما كان من صراع بين طلبة حركة انتصار الحريات (حزب الشعب) من جهة، وطلبة بعثة جمعية العلماء الذين كانوا هم الأغلبية، وكل فريق كان يحاول تجنيد الطلبة إلى جانبه، وقد حدثت مشاجرات بين الطلبة أدت إلى جرح بعضهم: “رأيت بنفسي قميص محمد الشريف مساعدية ملطخا بالدم .. في اليوم التالي للمشاجرات”. ص110.
- ذكر المؤلف أنه في سنة 1949 تعلم “التردد على السينما” وصار مولعا بالأفلام المصرية حتى قال: “تعلقت تعلق العاشق بأسمهان، وتأثرت بصوتها إلى درجة الوجد الصوفي” ص120.
- تحسر المؤلف على ما سماه “حسنات الاستعمار” الذي “وحد الجزائر وتونس في الهم والقطار والعملة” “ولكن بعد الاستقلال اختلفت الاهتمامات وتبدلت العملة وتوقف القطار”!! ص136.
- ذكر المؤلف أن “عدد الطلبة الجزائريين في الزيتونة كان حوالي ألف طالب” وأنه تولى رئاسة “جمعية البعثة الزيتونية لجمعية العلماء” لمدة قاربت ثلاث سنوات. ص140.
- ذكر المؤلف عن نفسه أن كان يجد لذة “في المطالعة الأدبية والنفسية والاجتماعية، أما الكتب الدينية المقررة” فلم يكن يميل إليها وإنما يراجعها للامتحان فقط. ص149.
- من العلماء الذين أقر لهم المؤلف بالتأثير هو الشيخ “الفاضل بن عاشور” الذي وصفه بأنه “كان واسع المعرفة وله شخصية جذابة وهيئة مؤثرة، وكانت دروسه تستقطب الأساتذة والطلبة معا” ص154.
- تألم المؤلف بشدة عندما رفض طلبه الذي قدمه لجمعية العلماء ليكون ضمن بعثاتهم المتوجهة إلى المشرق لمواصلة دراسته مع كل الخدمات التي قدمها لبعثة الجمعية و”انتمائه الفكري لها” ص181.
- بعد عودته إلى الجزائر وبفضل موقع خاله “الحفناوي” التحق معلما بمدرسة “الثبات”(الحراش) التابعة لجمعية العلماء حيث زامل الشاعر “الربيع بوشامة” ثم انتقل إلى مدرسة “التهذيب” (الأبيار) لتوفير قليل من المال ثم الهجرة إلى المشرق.
- في القاهرة نزل ضيفا على الشيخ “الإبراهيمي” في بيته، ثم سجل بالأزهر للحصول على الإقامة، وانتسب إلى “دار العلوم” حيث تخرج بشهادة ليسانس، مع عنايته بمراسلة “البصائر” حيث يغطي الأنشطة الثقافية وخاصة نشاط الشيخ الإبراهيمي الذي أظهر له الغضب من ورود اسم “أم كلثوم” في تغطيته، وسأله بحدة: “كيف تذكر هذه المرأة في جريدة تحمل اسمي؟” وعند زوال الحواجز بمرور الزمن سأله عن رأيه في أم كلثوم، فأجابه الإبراهيمي بهدوء وثقة: “هذه يا ابني امرأة لم يعرف العرب مثلها منذ سلامة القس”!!
- في 05 فبراير 1956 شرع يسجل “يومياته” التي نشرت في كتاب “مسار قلم” الذي طبع منه إلى حد الآن سبعة أجزاء بحسب ما ذكره نجله “أحمد” في مقدمة هذه المذكرات.
- في الفصل الأخير الذي يقع في نحو 150 ص ذكر رحلته إلى أمريكا، وهي رحلة مليئة بالتحدي والجد والفخر، وهي عنوان الطموح العالي فقد وصل إليها بجواز سفر “تونسي” وهو لا يعرف الفرنسية، ولا يحسن إلا بضع كلمات من الإنجليزية، وخرج منها بشهادة دكتوراه في التاريخ، ومن لطائف هذه المرحلة:
- بعدما لاحظ دقة الأمريكيين وشدة تنظيمهم وصفهم بقوله: “إنهم قوم يعملون في الحاضر ولكن عيونهم على المستقبل”.
- من الذكريات السيئة في تلك الفترة وبعد نفاد “المنحة” لجأ إلى العمل في الحي الجامعي، جاءه أحد زملائه في العمل قد تورط في علاقة أفضت إلى حمل صاحبته، وهو يبحث عن اجهاضها، واقترح على المؤلف أن يمكنه من مسكنه “الخاص” لإجراء هذه العملية، قال: “فارتعدت فرائصي، وجف حلقي، ماذا أقول له؟ وفي لحظات جاءني الجواب: فقلت له: إن ذلك لا يجوز في شرعنا وإذا ساعدتك على ذلك فسأكون شريكا معك في الحرام”!!
- عند مناقشته في أطروحته التي كانت حول “الحركة الوطنية الجزائرية” ذكر شيئا مهما حيث قال إن الأمريكيين: “لا يناقشون المعلومات والأشخاص والأحداث من حيث هي والأخطاء الإملائية والمطبعية كما نفعل نحن في الجزائر والمشرق، ولكنهم يركزون على تفسير الحدث وأوجه المقارنة والاستنتاج” لمعرفة “مدى استعدادات الطالب العقلية والفكرية ودرجة حكمه على تطورات التاريخ بعد أن صنعتها تلك الأحداث والأسماء”.
- كما أن “الجامعات الأمريكية تحرص على مشاركة هيئة التدريس في النشاط العام من جهة والنشاط الأكاديمي من جهة أخرى، ويسمون النشاط العام خدمة المجتمع”.
19. عند عودته من هذه الرحلة العلمية إلى الجزائر سجل بمرارة: “الناس منهمكون في نهب خيرات البلاد كل على قدر جهده، الحديث دائما على (القافزين) أي أولئك الذين يمشون على جثث الآخرين لتحقيق رغباتهم في الحصول على السكن أو الأرض أو الامتيازات .. بدون مؤهلات” ص354. - في الجامعة تحدث بمرارة وحسرة على سيطرة التيار “الفرانكفوني” حيث قال في المكلف بالمعادلات: “وكان (بوزاهر) رأس الفرنكوفونية في الجامعة يعتقد لجهله، أن التعليم في العالم كله لا يبلغ ما بلغه التعليم في فرنسا وكذلك شهاداتها. وبكل بساطة قال لي أن شهادتك تعادل دكتوراه الحلقة الثالثة في النظام الفرنسي الذي لا يخرج عنه هو قيد أنملة. ومن سوء الحظ أن (بوزاهر) ظل هو الذي يقرر قيمة الشهادات غير الفرنسية إلى الثمانينات تقريبا، وكم تسبب في تحطيم آمال شبان جزائريين فضلوا الرجوع إلى البلدان التي تخرجوا منها.. وعاش وعشت إلى أن أصبحت أنا هو رئيس لجنة المعادلات الوطنية على مستوى وزارة التعليم العالي” ص 354.
- وعن بعض يومياته في الجامعة لما صار نائبا للعميد وأسندت إليه مهمة “متابعة عملية تعريب الإدارة والمواد الدراسية” لاحظ أن “أقسام اللغة الفرنسية، والانجليزية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس” تقف حجر عثرة أمام هذا المشروع، فعلق قائلا: “كان من عادة الجزائريين اسناد العمل إلى شخص ثم بذل الجهد في عرقلته حتى لا ينجح في انجازه” ص 375.
- كما عبر عن رفضه لبعض التخصصات ووقف ضدها رفقة أساتذة آخرين خاصة: “قسم الاثنيغرافيا والانثروبولوجيا (علم الإنسان) لأننا نعتبرهما من إنشاء الاستعمار لخلق الفتنة والتفرقة لأن مثل هذه التخصصات لم تنشأ إلا في المستعمرات لأغراض خاصة” ص377.
- آخر ما يذكر في هذا التلخيص هو الأسلوب الذي تم به اختيار الدكتور سعد الله -رحمه الله-نائبا لرئيس اتحاد الكتاب الجزائريين مع أنه لم يقدم ملف العضوية بل وانسحب خفية ورجع إلى بيته لما عاين الهدف الحزبي لهذا الاتحاد ثم شاهد الإعلان عن ذلك في نشرة الأخبار مساء!!!
ختام:هذا عرض مختصر لأهم ما تضمنه هذا الكتاب الذي يعد سيرة ذاتية مميزة، كتبها مؤرخ بصير بالحوادث والأيام، أبرز شيئا مهما من تفاصيل الحياة وأتعابها، وعدد المصاعب التي عادة ما تتحلى بها رحلات النابهين من أصحاب التحدي، وهو وثيقة جديرة بالمطالعة لما فيها من محاسن العقول الحية التي وهبت خير ما عندها لأمتها، وضحت تضحيات جسام في سبيل النهضة العلمية والفكرية التي أوشكت أن تؤتي أكلها لولا تلك المشاريع السرية التي تولاها أعوان الاستعمار وأذياله في محاضن خادعة، نحن نتجرع بعض آلامها إلى اليوم.
- بن يدة حبيب
أن جمعية العلاماء المسلمين تأتي دائما عندما يبدئ المجتمع عن البعد عن الدين والاخلاق ويبلي الايمان فتعمل جاهدة من أجل بعث روح العلم وتمسك بالقيم الاسلامية والفهم الصحيح فندعوا الله ان يوفق ابناءها وبناء الامة الاسلامية الي الفهم الصحيح لمنهاج النبوة