تعدد الزوجات: زاوية نظر
تعدد الزوجات – زاوية نظر
كثيراً ما قرأت عن قضية تعدد الزوجات في شرح بعض النصوص من المختصين الشرعيين، أو في هجوم بعض الحداثيين والمستشرقين، أو عند من يردّ عليهم .. وقليلاً ما وردت عليّ قصص اجتماعية حقيقية يتمثل فيها التعدد كمشكلة تحتاج نظر وكلام. لم أشعر يوماً بالرغبة في الحديث عن الأمر .. ربما لأني منشغلة بقضايا أخرى .. وربما لأن من يتحدثون به كثر .. وربما لأني لا أجده من الأمور الملحّة في زمننا.. وربما لأنه لايحرك في نفسي اهتماماً بحكم عدم ظهوره في المجتمع المحيط بي. إلى أن وجدت نفسي ضمن مجموعة دارسين تبحث في الأمر .. ولمست أن المحرك الفكري لدى كثير منهم في فهم النصوص يعتمد على الموروث المجتمعي، وليس على المقصد الشرعي، حينها وجدت دافعاً للبحث في الأمر، والكتابة حوله، مع الأخذ بعين الاعتبار المقاصد الجمعية والاعتبارات النفسية.
تعدّ قضية تعدد الزوجات في الإسلام من القضايا الأسرية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ..والتي طبقت وفق مقتضاها أحياناً، وخرجت عن مسارها أحياناً أخرى، وأصبحت تعد قضية شائكة في الطرح أحياناً، بل ربما شكلت شبهة يثيرها المستشرقون والحداثيون، لذا يحاول هذا المقال النظر للقضية من زاوية نظر ترتكز على منطلقات ثلاث:
- الأول: مستوى الخطاب القرآني وطبيعته في طرح بعض قضايا الأسرة.
- الثاني: المقاصد القرآنية تجاه بعض قضايا الأسرة.
- الثالث: التطبيق النبوي … وطريقة فهم الصحابة وتطبيقهم.
إن النظر في مستوى الخطاب القرآني في طرح قضايا الأسرة يجد أن أغلبه كان على مستوى جمعي، مع مراعاة الحاجات النفسية الفردية، ومن الأمثلة الدالة على ذلك الآيات ٢٣٤ _ ٢٣٥ من سورة البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خبير * وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ … )
فالخطاب القرآني في الآية ٢٣٤ يتعلق بحكم المتوفى عنها زوجها .. ولكنه يخاطب المجتمع ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا .. ) مما يشير إلى المسؤولية المجتمعية عن المرأة المتوفى عنها زوجها .. وتكمل الآية ٢٣٥ تلك المسؤولية في التفكر بمن سيتزوج تلك المرأة الأرملة منذ لحظة وفاة زوجها وجواز التلميح دون تصريح .. وتبين الآية بعد ذلك حكم جواز عقد الزواج بعد انتهاء العدة .. وأن ذلك يقود إلى المنطلق الثاني.. المنطلق الثاني هو المقصد من آيات الأسرة في الخطاب القرآني وهو البعد البنائي الجمعي .. بمعنى الاحتضان المجتمعي للمرأة الأرملة أو المطلقة .. وعدم تركها وحيدة ضمن المجتمع .. وهذا يقودنا إلى استنتاج أن تعدد الزوجات إجراء يقصد منه صيانة المجتمع من خلال رعاية المرأة .. بمعنى أن التعدد يقصد لصالح المرأة الأرملة والمطلقة ولصالح سلامة المجتمع .. والدليل على ذلك هو التطبيق العملي للأمر الذي يفهم من عمل الصحابة رضوان الله عليهم .. وهذا يقودنا للمنطلق الثالث المنطلق الثالث هو التطبيق النبوي وفهم الصحابة للأمر .. إن الأمثلة كثيرة حول الأمر .. منها .. زواج أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها بعد ترملها .. قال عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ في الحديث الذي رواه أحمد : إن أم سلمة لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: مرحباً، أخبر رسول الله أني غيرى (شديدة الغيرة)، وأني مُصبية (ذات أولاد صغار)، وليس أحد من أوليائي شاهد . فبعث إليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أما قولك: إني مصبية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي .. ).
ومن الأمثلة أيضا مباشرة عمر بن الخطاب بعرض ابنته حفصة رضي الله عنهما فور ترملها .. حيث عرضها على أبي بكر وعثمان قبل زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها .
إن ماسبق يدل على المقاصد والهدايات التالية :
- التعدد هدفه صيانة المجتمع .. برعاية المستضعفات من المطلقات والأرامل وأولادهن بالدرجة الأولى.
- التعدد يظهر في بعض المجتمعات وقد يقل أو يختفي تبعا لموقف المرأة.. فإن رضيت أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة انتشر .. وان لم ترض تجفف منابعه.
- لا يوجد دليل يمنع أن تكون الزوجة الثانية بكرا .. ولكن الدلائل كانت تشير إلى اقدامهم على الزواج بالثيب بالدرجة الأولى.
- وجود الرغبة عند الرجل في التعدد من رحمة الله حتى يقدم عليه .. وحتى تهون عليه المسؤولية .. وحتى تتحقق صيانة ورحمة من تحتاج من النساء ممن يطبن له ..
- الآية التي ذكر فيها التعدد في سورة النساء يبدو أن القصد منها حماية المرأة اليتيمة وصرف نظر وليها عنها إلى من تطيب له ممن تحتاج من النساء.
- غياب وعي الرجل بمقاصد التعدد يُعد من مظاهر ضعف المجتمع، ويؤدي إلى تفكك الأسرة، وغياب وعي المرأة كذلك يؤثر على سلامة الأسرة .
- إن توجيه وعي الرجال للمقاصد من التعدد يخلق عندهم الانتماء المجتمعي من جهة .. ويعزز مسؤوليتهم من جهة أخرى تجاه المجتمع وما فيه من أرامل ومطلقات وأيتام من جهة أخرى.. كذلك يعمق ويقوم مفهوم القوامة .. ويخفف من المشكلات الأسرية التي قد يسببها التعدد . والله أعلم.
د. عليا العظم