تأويلُ “راند “1-أو نظرية التطاحن الداخلي-أ.بلخير بن جدو
تأويلُ “راند “1-أو نظرية التطاحن الداخلي
أ.بلخير بن جدو
لا جرم أن المعركة بين الإسلام والكفر بدأت منذ أن استخلف الله آدم الأرض، فتنوّعت آحاد المعارك في شكلها؛ واتّحدت في غايتها مع كل نبيٍّ وزمن وموطن، ولم ييأس الشيطان ولم ينقُض عهده الذي قطعه على نفسه في حربه ضد الإسلام، بل ضد صلاح البشرية وسلامة فطرتها الإنسانية؛ وفي كل مرَّة يتّخذ من السلاح ما يناسب الزّمن والوطن.
وحديثي عن تقرير ” راند” يجب أن يُسبَق بحديثٍ عن بدايةٍ من بدايات الاستشراق؛ لنستحكم التصوّرَ؛ فينضبط الحكم عن هذا التقرير المُخيف.
منذ سقوط القسطنطينية؛ ودخول محمد الفاتح إلى كنيسة “آيا صوفيا” فاتحا، وجد النصارى حينها يصلون صلاتهم فلم يقطعها عنهم؛ وأمرهم أن يُتمّوها؛ فلما فرغوا منها أُذِّن لصلاة العصر؛ وصلَّى بهم محمد الفاتح، ومن حينها أصبحت الكنيسة “آيا صوفيا” مسجدا للمسلمين ..
ومن يومها بدأ النصارى يختطُّون لأنفسهم الخطط لاسترجاع السيادة …ومن يومها بدأ الاستشراق الفكري؛ ودراسة المسلمين دراسة تفصيلية مُملّة؛ ابتدأها كبيرهم “روجر بيكين” ؛ فدخلوا بلاد المسلمين مُتلصِّصين في أثواب تجَّارٍ ومتسوِّلين؛ فعرفوا كل حاجة وداجة عن اللسان العربي والفقه والطب والصناعة والجغرافيا والتاريخ، وكان هذا الاستشراق تمهيدًا وإمدادًا لحربٍ صليبيةٍ قذرةٍ لاسترجاع هيبة النصرانية، ثم كان ما كان ممّا لا يخفى من غفلة المسلمين واغترارهم؛ حتى سقطت الأندلس بعد أربعين سنة فقط من فتح القسطنطينية .
.. ومن يومها؛ لم يغفُل الغرب عن المسلمين؛ ولن يفعلوا؛ مادام إبليس ينفُثُ في رَوْعهم حقدَه الذي لم يخفُت منذ استخلاف آدم عليه السلام .
و تقرير “راند” – الذي صدر 2007 خاصة – وقد اعتمدته لظهور أثرِه بعد الثورات العربية جليًّا…- حلقةٌ من سلسلةٍ تُظهر نجاعة الغرب وجدّيتهم في الحرب؛ وأن اشتغالهم بنا ليس ترفًا؛ والحرب الفكرية منهم مُقدَّمة على الحرب العسكرية؛ وهي مُقدِّمةٌ لها وتمهيد.
إذا علمتَ أنّ هذا التقرير تنتجه مؤسسة RAND وتموّله القوات الجوية المسلحة الأميركية ويعتبر كحكومة ظل بالنسبة للإدارة الأميركية،ومؤدَّاه رسمٌ للخطة الأميركية في التعامل مع أحداث العالم أجمع؛ ومنه العالم الإسلامي . تيقّنّ عندك أن أميركا تريد عولمةً على مقياسها .
والعجيب في تقرير “راند” هو الدراسة المفصّلة بدقة لعقلية المسلم،ومُرتكزات الدين الإسلامي؛ حتى استطاعوا إنتاج أسبابِ تهديم الإسلام من الداخل، حالهم كمن يروم أن يستخلص من السُّمِّ تِرياقا ..وقد اتّخذوا من الإعلام سلاحا لمسخ المجتمع، حتى صار المجتمع يحارب نفسه، ورأوا في المرأة مُدَّخلا لهدم المجتمع، فأرادوا من كلِّ امرأةٍ ان يكون لها خِدنٌ؛ ومن المجتمع الإسلامي أن يستمرئ هذا الخِدن ويستبشع التّعدد. فقال تقريرهم : أهم معركة ضد الإسلام هي معركة حقوق المرأة .
ثم عمدوا إلى الحداثيين والعالمانيين، فدعّموهم الدّعم المطلق، ولك في ظاهرة –شحرور- أوضح مثال- وأشاعوا الاستخفاف بالنُّظُم الاقتصادية الإسلامية، بل حتى الاستخفاف بالعقائد أصبح شيئا مُطّردًا عند المُتأدِّبة، والاستخفاف بالأحكام الشرعية ديدنُ اللِّيبراليين؛ جرّأهم على ذلك:علمٌ سطحيٌّ بالخلاف، والأصل تعظيم النَّص الشرعي؛ فلا تقف عند حرفه وظاهره فقط دون معرفة كنهه ومقصده ؛ولا تستغرق في الخلاف محاولا اقتناص ما يوافق هواك، وكل ذاك داخلٌ ضمنيًا في قوله تعالى (ولَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)
حتى برامج التعليم أفسدوها وعدّلوا منها ما ينقض عقيدتهم، والجمعيات الخيرية لم تسلم؛ فأغلقوا المُستفحل منها؛ هلعًا من تمكّن التكافل الاجتماعي، وقد رأينا أخيرا كيف اجتمعت ثلة من الفرنسيين- وفيهم الرئيس الفرنسي السابق “ساركوزي” لمحاربة القرآن جهارا من غير رادع (وَدّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)
وأما الأقليات النصرانية في بلاد المسلمين فهي دافعهم ومفزَّعهم ليستنفروا حكوماتهم لبناء الكنائس،بل تنادت استخباراتهم بغرس كُتَل عُمَّالية؛ ليكونوا طُعمًا للمطالبة بكنائس ومعابد؛ يقيمون فيها صلواتهم؛ كما هو الحال في أرض الحجاز .
وأما رؤساء الدول فلم يغفلوا عنهم؛ فهم يجتهدون في إذكاء الفُرقة بينهم؛ وهذا مُشاهدٌ الآن بين بعض الدول، والأمر قديم فقد كان من أولى وصايا لويس التاسع بعد أن أُطلِق سراحه : ( إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في إضعاف المسلمين )
وبعد:
فإنّ هذا التقرير عبارة عن عملية سبرٍ رهيبة ومُتقنة، ومن أمعن النظر فيه استطاع أن يفسر كثيرًا من الأحداث الجارية
ومن المؤسف أن ترى شبكات التواصل الاجتماعي وقد استحالت إلى مصدرٍ للعلم، والفصل في القضايا،وغاب التأصيل العلمي المنهجي، فنتج صنفٌ من الدعاة يجتهدون في ذكر الخلاف تمييعا للأحكام؛ وتهوينا من حرمة النّص؛ جاهلين أو متجاهلين أن تعليل الأحكام بالخلاف علّةٌ باطلةٌ في نفس الأمر -كما يقول ابن تيمية-وهم يحسبونه نباهةً وأُلمُعية
وبعد : ففي الفؤاد لوعةٌ مُستكنَّة سببها خشيةٌ مؤرِّقةٌ من هذا التقرير، وانصراف هذا الجيل عن مهمته المَنوطة به، وإنّ أوّل ما عليه أن يستغفر الله من هذا الزَّيف والوهم الذي حصر نفسه فيه؛ فيرى نفسه مثقفا إذا اطّلع على كثيرٍ من أخبار السياسة والأدب والتاريخ ظانًّا بنفسه الظنَّ الحسن أنه على شيءٍ؛ وهو – والله – ليس على شيء، ومن رام حيلةً للخلاص؛ فعليه بمدارس الإصلاحيين التي انطلقت من القرآن،فليأخذ منهم ما أصابوا فيه الحق؛ وليَذر ما أخطأوا فيه، فإن أمثال هؤلاء قد سبقوا دهرهم باستشرافهم الستقبل؛لأنهم انطلقوا من القرآن – والقرآن أعظم موجود: فيه خبر ما مضى وما سيأتي –والقرآن منهجٌ جاء على حينٍ من الدهر لم يكن للعالمين من سبيلٍ يسيرون عليه، وما راموه من سياسةٍ وأدبٍ وتاريخٍ؛ و- إن كان شيئا حسنا – لكنه لا يعدو أن يكون تَرَفًا ومُلَحًا؛ تصلح لمن استكمل أدوات العلم لينفُذ إلى الحق سريعًا مُصيبًا (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) ..وصدق الله المُتعال ..والسلام
- 1 – تأويله : ما يؤول إليه التقرير على أرض الواقع و ليس مُرادي تفسيره وشرحه
وكتب : المُتحنِّن إليهم
بن جدو بلخير