الوعي الإصلاحي بأهداف المشروع الاستعماري: قراءة في خط المدافعة الثقافية عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين- حسين بوبيدي -الجزائر-
الوعي الإصلاحي بأهداف المشروع الاستعماري:
قراءة في خط المدافعة الثقافية عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
د. حسين بوبيدي
أستاذ التاريخ جامعة قسنطينة 2
مقدمة:
كان منهج المدافعة الذي سلكته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الجزائر امتدادا لخط الحركة الإصلاحية الإسلامية بمفهومها الواسع؛ وذلك من خلال التأثير الذي مارسته دعوة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا على العقول الإسلامية التي انتبهت إلى ضرورة تضمين المواجهة السياسية مع الاستعمار أبعادا فكرية هوياتية، لكن تجربة الإصلاح في الجزائر تتمير بخصوصية محكومة بالمرجعية العقدية والفقهية التي توارثها الدرس المسجدي ومناهجه، وحركة التأليف ومقاصده، وبالظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها الجزائر تحت الحكم الاستعماري الفرنسي الاستيطاني، حيث ألقت قوانين إدارة الاحتلال وسياساتها التجهيلية والتغريبية بظلالها على خيارات الإصلاحيين، ثم حتمية الانتباه إلى تسلّط المستوطنين وتوجّسهم من صحوة الضمير الوطني، والذي حتّم في كثير من الأحيان اعتماد أشكال مختلفة من “التقيّة” والمناورة السياسية، بالإضافة إلى التجاذبات بين مكونات الحركة الوطنية، والصراع الفكريّ بين الخط الإصلاحي والإسلام المرتهن إلى بعض المفاهيم الطرقية السّكونية، والتي انعكست على نشاطات الجمعية وتوجيه اهتماماتها وترتيب أولوياتها، لكن مدافعة المشروع الاستعماري على المستوى الثقافي كان يمثل منطلق التفكير لدى رجال الإصلاح، باعتبارهم خط المواجهة الأول ضد محاولات التغيير الهوياتي والاستبدال الحضاري؛ من أجل استمرار الجزائر بلدا، والعربية لغة، والإسلام دينا، وهو ما يؤكد وعيا عميقا بمشروع الاستعمار وأهدافه الرامية إلى قطع الشخصية الجزائرية عن جذورها العربية الإسلامية.
لم تنطلق جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من فراغ، بل إنها راكمت جهودها على نضالات سابقة حفظت استمرارية التدريس التقليدي؛ حتى ولو لم تتمكن -دائما- من توظيفه نضاليا في مواجهة الاستعمار، وعلى حركة الهجرة العلمية داخل بلدان المغرب ونحو المشرق، ويعود التميّز في نشاط الجمعية إلى دمج الفعل التعليمي والحركة الصحفية والجهد التأليفي ضمن مشروع له استراتيجيات وأهداف تلاقى فيها الدافع العقدي مع يقظة الروح الوطنية، وفي توصيف الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس لوضع الأمة عندما كان يهيئ لمشروعه ويبذر بذوره الأولى فيه؛ قال أن “المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وأن ذلك وإن كان يبدو اليوم قليلا، لكنه بما يحوطه من عناية الله وما يبذل فيه من جهود المصلحين سيكون بإذن الله كثيرا، وعسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين”[1].
لقد اعترف الإمام عبد الحميد بن باديس أن “الإسلام الوراثي حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به، وخصوصا العربية منها، شخصيتها ولغتها، وشيئا كثيرا من الأخلاق ترجح به، لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم؛ لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتفتح أنظارها، والإسلام الوراثي مبني على الجمود والتقليد، فلا فكر ولا نظر”[2]، وحاول الشيخ الإمام وجماعته أن يقدموا الفكر والنظر ويدمجوه في النشاط العلمي ليكون هادفا ومؤثرا ومحدثا التغيير المطلوب الذي يتيح بروز جيل مناضل يدافع عن حقوقه، ويستشعر معنى وقوعه تحت الاحتلال الاستيطاني.
إن فهم منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يتطلب قراءة فكرها في مدافعة السياسات الثقافية الاستعمارية على ضوء الأهداف المرسومة والمخرجات المرتقبة، وهذا الفهم لا يتحقق إلا بفحص الكتابات التأصيلية والحجاجية لرجال الإصلاح ضمن الظروف المحيطة بها، وتحديد أوجه المنازلة الفكرية للمشروع الاستعماري.
1-مشروع الاستعمار الفرنسي في بعده الثقافي: الاستئصال والإحلال والإبدال:
لاحظ المؤرخ الإنجليزي وليام قلوا/ William Gallois في دراسة له صدرت سنة: 2017 أن تفكيك مشروع الاستعمار الاستيطاني في الجزائر من منطلق: الإبادة والإحلال والإبدال لم يأخذ نصيبه من الدراسة كما حدث مع أمريكا وأستراليا في معاناتها مع السياسات الاستيطانية والإبادية للرجل الأبيض[3]، وقد فحص في هذا البحث السياسة الاستعمارية الفرنسية التي هدفت أساسا إلى تدمير دولة إسلامية قائمة (إيالة الجزائر العثمانية) واستبدالها بدولة/أمة جديدة من خلال سياسات الاستئصال والإحلال والاستبدال وإعادة تشكيل البنى الاقتصادية والاجتماعية المستندة إلى منظومة تشريعات إلزامية وإخضاعية، وهذه السياسات اعتمدت لترسيخها أشكال التقتيل والإبادة والتجويع والتفقير والنفي والتهجير والمصادرة، وإعادة البناء الاجتماعي والتحويل الهوياتي، واستدخال الاقتصاد الجزائري ضمن الدورة الاقتصادية للاستعمار، ومن أهم وسائلها التغيير التشريعي، وتفكيك الروابط القائمة، وإسقاط المنظومة الأخلاقية الحاكمة للعلاقات والتصرفات، وإحلال منظومة ثقافية جديدة تعمل من أجل القضاء على الخلفية الفكرية المشكّلة لهوية الأمة، وزرع تصورات جديدة لديها الاستعداد لتقبل استبدال منظومة القيم والقوانين الإسلامية بمنظومة جديدة تنتمي إلى فلك الثقافة الفرنسية الغربية[4].
في هذا السياق يمكننا موضعة السياسات الفرنسية على أنها خطة مرتبة وفق منهج سماه وليام قلوا/ William Gallois العنف البطيء المتواصل، تستهدف به عملية المحو والإبدال؛ ويتجلى ذلك في مصادرة الأوقاف التي كانت تمول التعليم الديني، وتأميم المساجد ووضعها تحت الرقابة المباشرة للسلطة الاستعمارية واستغلالها كمراكز اقتصادية؛ في إشارة إلى الانتقال من دولة الدين إلى دولة الربح، والعمل على خلق نخبة تغريبية من خلال قوانين وسياسات التعليم الأهلي الهادفة إلى تحقيق الاندماج القائم على التنصل من هوية الأمة وانتمائها الحضاري، وبث مشاهد الثقافة الشعبية الفلكلورية فيما يتعلق بحضارة الجزائريين وتاريخهم وتراثهم، وتقديمها في صورة كاريكاتورية يستحي أصحابها من وضعها بإزاء الحضارة الفرنسية التي يتم تقديمها دوما باعتبارها أرقى ما بلغته الإنسانية.
فهم الإصلاحيون هذا المخطط جيدا، وقد عبرّ عن ذلك الشيخ البشير الإبراهيمي؛ بتوصيف الاستعمار الفرنسي أنه: “صليبي النزعة؛ فهو منذ احتل الجزائر عامل على محو الإسلام، لأنه الدين السماوي الذي فيه من القوة ما يستطيع به أن يسود العالم، وعلى محو العربية لأنها لسان الإسلام، وعلى محو العروبة لأنها دعامة الإسلام، وقد استعمل جميع الوسائل المؤدية إلى ذلك، ظاهرة وخفية، سريعة ومتأنية، وأوشك أن يبلغ غايته بعد قرن من الزمن متصل الأيام والليالي في أعمال المحو، لولا أن عاجلته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على رأس القرن، بالمقاومة لأعماله، والعمل على تخييب آماله”[5].
ليس هدف هذا المقال إيضاح هذه السياسات التي سارت بشكل متناغم بين السيف والصليب والمدرسة، ولكن فحص رد الفعل الذي جوبهت به، من خلال فحص أعمال رجال الإصلاح وأساليبهم في المواجهة الحضارية لمنع الاستعمار من تحقيق هدفه، وقد كان الإصلاحيون مدركين لمخرجات السياسة الاستعمارية ومقاصدها، ورسموا سياستهم في مواجهتها انطلاقا من وعيهم بمقاصدها، وهذا ما فرّق بين الخط الإصلاحي ونموذج النضال الحزبي والسياسي، وقد كتب عبد الحميد بن باديس ملخصا هذه الرؤية: “القومية والشخصية لهما مقومات ومميزات، والمحافظة عليهما والاعتزاز بهما مما جبل عليه الناس كما جبلوا على حب البقاء، لكن قد يطرأ على بعضهم سوء ظن فيهما لجهل أو ضعف فيتخلى عنهما؛ فيكون ذلك التخلي نذير الفناء”[6].
2- وعي العلماء الجزائريين بأبعاد السياسة الثقافية الفرنسية:
يعد مشروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أحد أبرز الردود على احتفال فرنسا بمئوية وجودها في الجزائر، هذه المئوية التي ظن الاستعمار أنها تؤسس لخلود فرنسا في شمال إفريقيا، وتمهد لاستنساخ تجربة اسبانيا مع مسلمي الأندلس، ومواجهة هذا الهدف الاستعماري كان بناء على دراية واستفادة من تجارب القرنين الـ 19 و20، وانطلاقا من تشخيص دقيق للمرض الذي ينخر الأمة، ولأهم أسباب فشل الانتفاضات والثورات والمقاومات الشعبية في مختلف ربوع الوطن، وإيمانا بقابلية الشعب الجزائري للإصلاح وحمل راية التحرر، فقد سأل شاب من النشطين في الحركة الوطنية الشيخ عبد الحميد بن باديس قائلا: “أنت شخصية كبيرة في المجتمع، فلماذا لا تدعو إلى الاستقلال، ولاسيما وأنت مسموع الكلمة بين الناس؟ فقال الإمام: ” يا بني من أراد أن يبني منزلا هل يبدأ من السقف؟ فقال الشاب: لا، فقال الإمام: إذن بماذا يبدأ؟ قال الشاب: بالأساس والجدران، فقال له الإمام: هذا ما أفعله الآن، نبني الأساس والجدران وبعد ذلك نبني السقف[7].
يقول الإمام عبد الحميد بن باديس في تشخيص السياسة الفرنسية: “اجتمعت في الجزائر كل أنواع الاستعمار، من استعمار اقتصادي وثقافي وسياسي، فقد وضعت فرنسا يدها على اقتصاديات البلاد كلها وحاصلاتها، وسنت لحمايتها القوانين الجائرة والاستثنائية، وطبقتها كلما دعت مصلحتها إلى تطبيقها، وزادت فمكنت للغتها في البلاد، فلا لغة إلا لغتها، ولا ثقافة إلا ثقافتها، حتى الدين امتدت إليه يدها، فبسطت نفوذها عليه لتستغله عند الحاجة، كما تستغل المناجم، أما الإدارة وأجهزتها، فكلها في قبضتها، وإذا وجد فيها جزائري فليكون عونا لها على إخوانه، وأي احتلال واستعمار أبشع من هذا الذي نعيشه في الجزائر”[8].
انطلاقا من هذا الوعي كانت حياة عبد الحميد باديس دعوة مستمرة لنهضة حقيقية من خلال السعي الجاد المتواصل لتعميم التعليم ونشره، ومن يقرأ جهد ابن باديس الذي كان يستهلك نهاره وليله على أنه مجرد استمرارية لأنماط التعليم التقليدية في المجتمعات المسلمة؛ إنما يغيب عنه التصور الذي وضعه الإمام المصلح لغاياته من هذا الجهد، وفي هذا السياق يصبح تعليم الصغار والكبار، ودمج العلوم الشرعية مع العلوم العقلية، والانفتاح على المناهج الحديثة، وتجميع الطاقات والعقول التي توزعت في مناطق عديدة واحتضانها ضمن مدارس الجمعية، والعمل على تأطير العقل الجزائري المثقف بالصحافة الإصلاحية لتكون بمثابة منفذه على فهم الواقع والتفاعل معه، إنما هو حركة شاملة أراد من خلالها ابن باديس أن يضع مشروعا في مواجهة المشروع الاستعماري.
ينقل الشيخ محمد الغسيري (ت: 1974) في ترجمته لأستاذه، أن الشيخ عبد الحميد بن باديس عندما شكّل أول مرة النواة الأولى لطلابه واجتمعوا في حلقة درسه، والذين تخيرهم من كل نواحي الجزائر: من السواحل والجبال والهضاب العليا والصحراء، عربا وبربرا على السواء؛ اشترط عليهم شرطا واحدا أساسيا؛ يتمثل في التزامهم أمامه بالعودة إلى قراهم ومدنهم وأريافهم ليعلموا ما تعلموه، وأن لا يقبلوا وظيفة حكومية مهما كانت مغرية وسامية، وقال لهم: “نحن قوم مبدؤنا في الحياة: “اشرب وشرّب” وليس: “اشرب واهرب”، ومن يجد نفسه غير أهل لهذا فليتدبر أمره من الآن”[9].
إن الذي ميّز الرؤية التي تبنتها الحركة الإصلاحية عن باقي الجهود الوطنية المبذولة في سبيل مدافعة التسلط الاستعمار في مرحلة النضال السياسي والنشاط الجمعوي والنقابي ثم الحزبي؛ هو تركيزها على إنقاذ الفرد الجزائري من أجل إحباط محاولة تغيير هويته وتدمير ثقافته وقطع صلته بمقومات انتمائه الحضاري (العربية والإسلام)، ولذلك من الواجب أن تقرأ تجربة التعليم عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انطلاقا من أنها مواجهة حضارية وليس ممارسة اعتيادية.
في هذا السياق كتب الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس مبرزا المخرجات الضارة للمدارس الفرنسية: ” لقد كان هذا العبد يشاهد قبل عقد من السنين هذا القطر قريبا من الفناء، ليست له مدارس تعلمه، وليس له رجال يدافعون عنه ويموتون عليه، بل كان في اضطراب دائم مستمر، وياليته كان في حالة هناء، وكان أبناؤنا يومئذ لا يذهبون إلا للمدارس الأجنبية التي لا تعطيهم غالبا من العلم إلا ذلك الفتات الذي يملأ أدمغتهم بالسفاسف، حتى إذا خرجوا منها خرجوا جاهلين دينهم ولغتهم وقوميتهم وقد ينكرونها، هذه هي الحالة التي كنا عليها في تاريخنا الحديث، وما كنا لنرضى وقد بها أو نبقى عليها وقد ولدتنا أمهات مسلمات جزائريات يأبين إلا أن نبقى كما ولدنا، وتأبى ثقافتنا إلا أن نرجع إلى ما عليه كنا”[10].
أدرك العلماء الإصلاحيون أنهم في حاجة إلى الحفاظ على جوهر الشخصية الإسلامية، لتستمر الأمة موجودة بانتمائها الحضاري وتميزها التاريخي قبل أن تسقط تحت الهيمنة الاستعمارية، وفهموا جيدا أن ذلك لن يتم بالوسائل القديمة، ذلك أن طرق التنشئة والتعليم الموروثة عن المرحلة العثمانية إنما كانت تحافظ على استمرار نفس النظم الاجتماعية، وتؤطر من خلال الشريعة عبر الأئمة والقضاة والعدول مختلف العلاقات الأسرية والمجتمعية، وكل ذلك كان في سياق المشروع الواحد المتصالح مع المنظومة المعرفية للجزائريين، والمستمد من تجربتهم التاريخية، لكن هذه الأدوات في حضور المشروع الاستعماري تبين أنها عاجزة عن مدافعته، ولذلك سرعان ما أدرك العلماء أنهم في حاجة إلى تطوير أساليبهم بحيث يصبح التعليم العربي ندا للمشروع الاستعماري، وينفي عن أصحابه شعورهم بالتخلف أمام الفكر الأوروبي، بما يحقق له وظيفته المناطة به ليكون جدار صد أمام محاولة الاستعمار “إنتاج” شخصية جزائرية بديلة، أو تركها في حالة ركود وجمود عاجز عن المدافعة الفكرية بما يسمح بتحويلها لمجرد يد عاملة رخيصة ومستغلة، وهكذا كان مشروع جمعية العلماء بمثابة الثورة قبل الثورة، والتحرير قبل التحرير.
3-التعليم في المشروع الإصلاحي للجمعية: نقلة بعيدة:
كان التعليم وفق منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مشروع إحياء وبعث مجتمعي، أدرك من خلاله منظروه حالة “الغيبوبة” التي تلبست بالتعليم التقليدي، الذي افتقد فاعليته الثقافية، وماتت فيه الروح المتوثبة إلى تغيير وضعها، وركن إلى حالة من الاجترار والتكرار التي تشبه “الدوران في الفراغ”، وأدى ضمن نتائجه الخطيرة إلى تكريس حالة من الضياع منعت المتعلمين من فهم السياق الزمني الذي يعيشون فيه، وإدراك ما تعرضت له شخصيتهم من تدمير داخلي، وعدم الانتباه مطلقا إلى ما يجب عليهم لتجاوز هذا الواقع نحو إعادة تأهيل المجتمع الجزائري ليتمكن من خوض الاستحقاق التحرري.
ينقل عبد الحميد زوزو عن أحد مدراء مدارس جمعية العلماء في تعريف المدرّس الحر أنه: “ذلك الجندي الذي عاهد الله على أداء الأمانة، وتبليغ الرسالة التي نيطت بعهدته غير هياب ولا وجل، وهو ذلك الطبيب الذي يبحث عن أمراض الأمة المعنوية ويعالجها في شفقة وحب”[11]، وهذه الروح هي التي كانت تؤطر أنشطة الجمعية، فالصوت النضالي كان عاليا في كل هذه الأعمال، وهو الذي أنتج طاقة عمل تبدو للكثير غريبة اليوم بما أنجزته في فترة قصيرة، وبإمكانيات متواضعة سرعان ما تحولت مدارس الإصلاح إلى ندّ للمدرسة الفرنسية؛ ولذلك رأى عبد الملك مرتاض أن هذه المدارس لم تكن إلا “ثورة ثقافية في الجزائر، ولم تكن إلا نذيرا أو بشيرا، يقرّب نهاية وجود الاستعمار ونظامه القذر، فكان الطفل الجزائري الذي يختلف إلى هذه المدارس العربية؛ كأنه يدرس في دمشق أو القاهرة أو بغداد؛ كل شيء عربي، وكل مادة تعليمية تقدم له بالعربية، في لهجة فصيحة سليمة تحث على الخير، وتهدي إلى الفضيلة، وتذكر بجلال الوطن، وعظمة الأجداد، وتبعة المستقبل”[12].
نمتلك في هذا السياق شهادة بالغة الأهمية، سجلها أحد طلبة المدارس الإصلاحية؛ ويتعلق الأمر بمحمد الطيب العلوي الذي كتب في مذكراته:
“يختلف عبد الحميد بن باديس عن غيره من علماء عصره بقسنطينة؛ بتفتحه الذهني، وإدراكه لمتطلبات الحياة العصرية واهتمامه بالتطورات الحديثة في مجالات الحياة، وفي مجال التعليم بصفة خاصة، وهو الذي نذر نفسه للتربية والتعليم، وجعلها الطريق الأسلم لإنقاذ الشعب الغافل، وبعث العزة والكرامة في أفراده، وقد بلغ من حرصه على تطوير التعليم أن فكر في إنشاء مدرسة حرة، تفوق في نظامها وسيرها المدارس التي تشرف عليها الإدارة الفرنسية، والهدف من وراء ذلك تحبيب اللغة العربية للأطفال الجزائريين الذين تعودوا النفور من العربية، أو من الكتاتيب القرآنية، وأقبلوا إقبالا عجيبا على المدارس الفرنسية المنظمة المرتبة، التي عرفت كيف تستغل ميول الأطفال، والتي استعملت وسائل الإغراء؛ لا بقصد جذب الأطفال إليها، ولكن بهدف القضاء على اللغة العربية، وبغاية مسخ الطفل الجزائري وخلقه خلقا جديدا لا يعبأ فيه بتاريخ ولا وطن ولا تراث.
منذ عام 1925 وعبد الحميد يفكر في تأسيس المدرسة، وفعلا أسسها بوسائل متواضعة، وبعدد قليل من أتباعه، وسرعان ما تطورت المدرسة الصغيرة الأولى إلى مدرسة متطورة واسعة حديثة البناء والوسائل والمناهج، فالتلاميذ لا يقرؤون القراءة التقليدية، بل حسب الطريقة العصرية، فأضاف للمنهاج التعليمي تعليم الأناشيد بالنوطة، ومزاولة الرياضة البدنية، لا فرق في ذلك بين البنات والأبناء، وقد جعل المدرسة مختلطة، فاختار للموسيقى وتلحين الأناشيد عبد القادر التومي، واختار للرياضة الدنية بطل شكال إفريقيا في ذلك العهد عبد الكريم، واختار في الرياضة البدنية الفصل بين الذكور والإناث”[13].
مع أن أساس برامج مدارس جمعية العلماء كان استلهاما من برامج الزيتونة والأزهر، وكانت الكثير من الكتب التي تدرس تجلب من مصر، فقد أوصت الهيئة العلمية لمدارس الجمعية بإضافة مقررات تبرز الانفتاح الكبير للعقول التي تدير هذا المشروع، وهذه المقررات التي تمت إضافتها تتعلق بالعلوم العقلية وهي: الرياضيات (الجبر والهندسة)، العلوم الطبيعية (خصائص الأشياء)، التاريخ والجغرافيا، حفظ الصحة، وكان يتولى تدريس المادة الأخيرة أطباء وصيادلة وأساتذة ومحامون[14].
كانت سياسة الجمعية التعليمية تصدر عن رؤية واضحة لابن باديس، الذي كتب في جريدة الشهاب (جوان 1936) ما يترجم هذا التوجه ويوضح تبنيه له كخط تغييري مرسوم بدقة نحو هدف الإحياء والإصلاح: “إنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه، فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي، وأصلح شأنه في الحال، ومدّ يده لبناء المستقبل، يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه، معرضا عما لا حاجة له به، أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته”[15].
هذا التأهيل المجتمعي عبر مدارس جمعية العلماء سرعان ما تحول إلى نشاط حركي مقاوم من خلال الكتابات الصحفية، فعبرت بذلك النخبة الإصلاحية وجمهورها عن انخراط في مشروع يستهدف حماية الهوية العربية الإسلامية، أي يقاوم محاولات التغييب المعرفي لدى العامة، والدمج الثقافي للنخبة، وقد لاحظ علي مراد أن الطموحات الثقافية التي دعا إليها ابن باديس كانت واضحة المعالم من البداية، لمن تأمل افتتاحيات جريدة المنتقد، وأن الشخصيات المدركة لمآلا ت هذه الحركة التعليمية في الإدارة الفرنسية وخارجها كانوا يعلمون أن ابن باديس وأصحابه لن يكتفوا بأعمال دعاة دينيين ومعلمين بسطاء يدرسون اللغة العربية بصورتها التقليدية، بل يعتزمون العمل على إحياء الثقافة العربية في الجزائر، والتأكيد على الشخصية الوطنية للشعب الجزائري المسلم[16].
4-التعليم في سبيل التحرير:
أدرك تلاميذ مدارس جمعية العلماء رسالة عبد الحميد بن باديس بالنظر إلى مخرجاتها، وهو ذات الإدراك الذي بلغ العقول التي تنظّر للإدارة الاستعمارية؛ فعملت على محاصرة رسالة الجمعية والتصدي لها، إذ كانت كل مادة تعليمية توقظ في الروح الجزائرية بعض ما مات منها، أو تنفض عنها غبار الجهالة الذي التصق بها، فتدريس العقائد كان يهدف إلى تصحيح أفكار الناس، وإبعادهم عن سوق الدروشة والشعوذة التي لبست لبوس الدين، وإعادة ربطهم بالمعين الصافي للإسلام ممثلا في القرآن الكريم والسنة المطهرة من خلال دروس التفسير وشروح الحديث، أي أن ذلك هو التصدي العملي للتشوهات التي مست التعليم التقليدي، وتوارثتها الزوايا على أنها موروث سلفها وطريقة مؤسسيها، وكان ابن باديس وهو ينشر بين طلبته ثقافة الدليل والبرهان، ينتزعهم من ربقة التقليد، ويعدهم للمحاججة والنضال والاعتراض، ويربيهم على التبعية المبصرة.
نمثل لهذه التجربة الثقافية المدافعة للمشروع الاستعماري بطريقة تدريس التاريخ، ونرصد شهادة محمد الطيب العلوي حول أحد أساتذته؛ ويتعلق الأمر بالشيخ محمد الصالح رمضان حيث كتب عنه:” في دروس التاريخ أبدى مهارته وبراعته، إذ لقننا تاريخ الجزائر، وقبل تلقينه لنا دروس التاريخ عرفنا عن طريق الخرائط وعن طريق دفعنا إلى رسم خريطة الجزائر والشمال الإفريقي وإفريقيا، ولم يشرع في التاريخ حتى عرفنا معرفة جيدة بلادنا، ومكانتها في القارة ومن الشمال الإفريقي، ولأول مرة نستعمل طريقة رسم الخرائط معتمدين على أنفسنا وتوجيهات المعلم، لكن بعد توغلنا في مادة التاريخ أدركنا أن الشخص يكتب لنا بعض الدروس والبعض الآخر لا يكتبه بل يقوله شفويا فقط، ولم ندرك هذا السر إلا فيما بعد حين كبرنا وغادرنا المدرسة، فقد كان يكتب لنا ما هو غير ممنوع، ويلقننا شفويا ما فيه حساسية”[17]، وتلتقي ممارسة محمد الصالح رمضان مع ممارسة أستاذه عبد الحميد بن باديس، فهو يذكر عنه أنه كان يدرسهم التاريخ والجغرافيا في آخر الليل، وكان الإمام يقول: “إنه الوقت الذي تنام فيه الشياطين”[18].
وفي تجربة محمد العابد الجيلالي في تدريس التاريخ أيضا؛ كما يتذكرها محمد الطيب العلوي الكثير من الفوائد المنهجية، فالرجل كان نموذجا يحتذى في النظر إلى مخرجات التعليم نظرته إلى مضامينه، وكان يرى أن المقرر “الذي لا يهدف إلى معنى، ولا إلى غاية، يجب أن يحذف من مادة التاريخ”[19].
في المحفوظات نقرأ دائما شهادة العلوي التي قال أنها دروس في الأدب العربي عندما يتذكر منهجية التدريس التي اعتمدها الشيخ محمد الغسيري:” وإذا تأمل المرء المنتخبات التي اختارها محمد الغسيري، والمقاطع التي كتبها لنا، والمقاطع التي حذفها يدرك بأن محمد الغسيري إلى جانب الهدف العام في التعليم كان صاحب هدف ومبدأ، وهدفه تلقين الناشئة مبادئ الوطنية العامة المرتكزة على شعار “حب الوطن من الإيمان”، ومبادئ الاعتزاز بالعروبة والإسلام، ولذلك كان يختار من القصيد ما يتماشى وهذا المبدأ، ويلغي ما لا ينسجم والمبدأ”[20].
إن تطوير أساليب التعليم لتساير المناهج الحديثة يومها، جعلت طلاب مدارس جمعية العلماء يتجاوزون عقدة النقص أمام طلاب المدارس الفرنسية، بل إنهم صاروا يعتزون بانتسابهم لمدارس متطورة تقدم مختلف أشكال المعرفة، وتنتمي في الوقت ذاته إلى هوية الامة وحضارتها، وتحمل إلى جانب التعليم رسالة تعطي الدروس مضامين ذات أثر فاعل في التغيير الثقافي والتحول الاجتماعي من الشخصية السكونية الجامدة إلى الحركية الفاعلة والمناضلة في سبيل القضايا التي تؤمن بها، وهذا بالضبط جوهر رسالة عبد الحميد بن باديس، حيث يقبع الهم السياسي داخل الفعل التعليمي، ويتميز عن غيره من المشاريع السياسية أنه ذو حمولة فكرية مناقضة للمشروع الاستعماري وليس فيه أي امتداد له.
اكتشفت أجهزة الاستعلامات الفرنسية في مرحلة لاحقة الدور الكبير الذي مارسه نمط التعليم الباديسي، وتأكدت أنه كان ثورة قبل الثورة، ذلك أنها وجدت من خلال قراءة سير التحولات العميقة التي دشنها الإصلاح أنه وفر للثورة إمكانية التحقق، وقد جاء في تقرير يخص الشيخ عبد الحميد بن باديس كتب سنة 1958: “ابن باديس من خلال عمله وعقيدته بنزعة التعصب الديني والعرقي، ونشاطه السياسي ما بين 1936-1940 أوجب اعتباره من كبار دعاة الحركة الوطنية الجزائرية، فهو الذي كون جيلا بأكمله من العلماء كلهم متعصبون الواحد أكبر من الآخر (…) يظهر بوضوح إلى أي حد كان التأثير الحقيقي للشيخ ابن باديس ونتائج تعليمه وعقيدته، شكّل غالبية تلاميذه كبار المتردين الذين يشنون ضدّنا الحرب المقدسة باسم استقلال الجزائر”[21].
[1]– عبد الحميد بن باديس، آثار عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الجزائر، وزارة الثقافة، 2007، ج1، ص: 166.
[2]– المصدر نفسه، ج2، ص: 17.
[3]– William Gallois, The destruction of the Islamic state of being, its replacement in the being of the state : Algeria, 1830–1847, Settler Colonial Studies, 2017, p : 2.
[4]-op, cit, p : 2-6.
[5]– عبد الحميد بن باديس، آثار عبد الحميد بن باديس، ج2، ص: 14. (من مقدمة عبد الرحمن شيبان)
[6]– المصدر نفسه، ج3، ص: 161.
[7]– عبد العزيز فيلالي، الشيخ عبد الحميد بن باديس: وعيه بالاستعمار وبالثقافة الغربية من خلال أرشيف الاستخبارات الفرنسية، عين مليلة، دار الهدى، 2016، ص: 31.
[8]– المرجع نفسه، ص: 34-35.
[9]– محمد بن أحمد يكن المنصوري الغسيري، صورة من حياة ونضال الزعيم الإسلامي والمصلح الديني الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس قدس الله روحه، تقديم وتعليق: مسعود بن موسى فلوسي، عين مليلة، دار الهدى، 2018، ص: 78.
[10]– عبد الحميد بن باديس، آثار عبد الحميد بن باديس، ج4، ص: 148.
[11]– عبد الحميد زوزو، الثقافة والتعليمان الحر والرسمي في العهد الفرنسي، الجزائر، دار هومة، 2017، ص:71.
[12]– عبد المالك مرتاض، نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر 1925-1954، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، ص: 32.
[13]– محمد الطيب العلوي، من السمندو إلى مليانة مذكرات الشيخ المدير محمد الطيب العلوي 1928-1956، إعداد ونشر وتعليق: علاوة عمارة وصلاح الدين العلوي، عيد مليلة، دار الهدى، 2018، ص: 34.
[14]– عبد الحميد زوزو، الثقافة والتعليمان الحر والرسمي في العهد الفرنسي، ص:91.
[15]– جريدة الشهاب، مج12، ج3، (جوان 1936)، ص: 103.
[16]– علي مراد، الحركة الإصلاحية في الجزائر بحث في التاريخ الديني والاجتماعي من 1925 إلى 1940، تر: محمد يحياتن، الجزائر، دار الحكمة، 2007، ص: 408.
[17]– محمد الطيب العلوي، من السمندو إلى مليانة، ص: 48-49.
[18]– علي علواش، حركة ابن باديس التربوية وأهدافها الإصلاحية، أطروحة دكتوراه، إشراف: بوعمران الشيخ، جامعة الجزائر، 1984، ص: 88.
[19]– محمد الطيب العلوي، من السمندو إلى مليانة، ص: 48-49.
[20]– محمد الطيب العلوي، من السمندو إلى مليانة، ص: 46-47.
[21]– عمّار طالبي وعبد المالك حدّاد، ابن باديس من خلال الوثائق وتقارير المخابرات الفرنسية، الجزائر، شركة الأصالة للنشر، 2017، ص: 488.