المنهج عند الأستاذ شاكر-أيوب نصر-المغرب-
عنوان المقال: المنهج عند الأستاذ شاكر
اسم الكاتب: أيوب نصر
كاتب مغربي، باحث في العقائد، والمدارس الفكرية، والاستشراق.
منذ ولجت ميادين الفكر ودخلت عوالم الأدب، أخذت على نفسي وعدا، وهو ألا أحمل هذا القلم ولا أخوض به أي أمر، إلا إذا كنت سأضيف شيئا جديدا على ما كتبته أقلام الناس، ولهذا كنت دائما أتهيب الكتابة عن شيخ العربية، الشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر، رحمه الله، وأخشى على قلمي الخوض فيه وفي فكره وما خلفه للناس عبر سنوات طويلة أنفقها من عمره في البيان والتأصيل ودفاع عن الإسلام والعربية، ولهذا فإني لم أكتب عنه إلا لماما وعلى استحياء، ومن ذلك اللمم الذي كتبته عنه وعن فكره، مقال سميته: “مقالة في الطريق إلى التذوق”1، حاولت الكشف فيه عن مقصود الشيخ بمنهج التذوق، وكل ذلك قد كان من غير إطالة في الكلام أو توسع في إقامة الشواهد والبرهان.
ثم مرت الأيام وتعاقب الليل والنهار، وجاءت الربيئة فاتحة باب القول في الأستاذ محمود شاكر وعلمه وأدبه وفكره، فبعثت تلك الدعوة من قلبها، وأرسلت ذلك النداء من صميمها، لتضطرب لهذا النداء نفسي، وترجف لتلك الدعوة روحي، وتشتعل تلك النار الكامنة بداخلي لعز المنهج الفريد الذي أنتجته هذه الأمة، والذي لم تبلغ معشاره أمة قبلها، سواء على مستوى طرائق النقد أو أساليب بناء الفكر، لينازعني كل هذا إلى حمل القلم والحديث عن أبي فهر ومنهجه، وخاصة أنه سبق لي وكتبت فيه، كما أخبرتك سابقا، مقالا قصيرا من غير استرسال في البيان أو توسع في إقامة البرهان، مما يظهر معه للناس مقصود الأستاذ شاكر، ظهورا واضحا لا يشتبه.
وهذا المنهج الذي عاش الشيخ، رحمه الله، حياته كلها يبينه للناس ويدعوهم إليه ويقعده لهم، لم يبتدعه ابتداعا من غير سابقة ولا ابتداء، كما قال هو نفسه2، وإنما كان معمولا به عند الأولين، ولم يحد عنه المتأخرون، إلا لما طغى على هذه الأمة من العجز والركون إلى الكسل، ولما أصاب أبنائها من قلة في الإطلاع وضعف في الباع، ولما حل بهم من عدم القدرة على إطالة النظر في طرق الأولين وإعنات الروية في تتبع أساليب المتقدمين، ومن هنا دخلت عليهم الشبهات والقواصم، حول دينهم وتاريخهم وآداب أمتهم، فأخذوا هم أنفسهم يروجون لها، ويدعون الناس إلى الأخذ بها، فجاء الأستاذ شاكر في وسط هذا الخضم الهائل والبحر الهائج، وحاول بيان هذا المنهج للناس، والتقعيد له، وهو إنما عمل به قديما سليقة، وتم التقعيد له في مرحلة من مراحل بناء العلم في هذه الأمة، ولكن ذلك التقعيد كان متفرقا في بطون الكتب، ولم يفرد بالتصنيف.
إن “منهج التذوق”، كما سماه الأستاذ، كان معمولا به عند الأقدمين، من سلف هذه الأمة، في جميع العلوم والفنون المرتبطة بالإسلام والعربية، ولكن، كما أشرت في الفقرة السابقة، كان عملهم به إما سليقة، وحين قعد له، كان تقعيدهم نزرا يسيرا مشتتا في الكتب المختلفة، وقد ظهر هذا المنهج بشكل واضح في علم هو من أهم العلوم الإسلامية، وهذا العلم هو “علم مصطلح الحديث”، فكان المنهج الذي سماه الشيخ بالتذوق، هو نفسه المنهج الذي إتبعه المحدثون لكشف الموضوع من الأحاديث وبيان العلل سواء في السند أو المتن، وذلك أن علماء هذا الشأن وأربابه كانوا يجزمون بأن الكلام ليس من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو أن به علة خفية قادحة تخرجه من الصحة إلى الضعف، لحظة سماعهم له أول مرة، وبعد دراسته دراسة اصطلاحية نقدية، يتبين صحة ما جزموا وحكموا به، من أنه ليس من كلامه ولا يقاربه، وذلك لما يتحسسوه في الحديث من لفظ و معنى يقصران عن لفظ ومعنى حديثه، صلى الله عليه وسلم، فهو أبلغ ولد آدم وأكملهم فصاحة وأعجبهم نظما وأسماهم نفسا، فإذا جاء حديث أو كلام يمكن الإتيان بأبلغ منه، لفظا ومعنى، وأسمى منه من ناحية الأغراض النفسية، علموا أنه ليس من حديثه في شيء، بل حتى في الأغراض، فكلامه، عليه الصلاة والسلام، فيه أغراض من نفسه يحملها كلامه، وذلك أن كل كلام نثرا كان أو شعرا إلا وفيه شيء من نفس قائله يستدل به عليه، والمحدثون من كثرة معاشرتهم لحديثه، عليه الصلاة والسلام، أدركوا ألفاظه ومعانيه، وانكشفت لهم نفسه بأغراضها، حتى اكتسبوا تلك الملكة القوية، التي جعلتهم يعرفون بها حديثه وما جرى عليه كلامه، في الألفاظ والمعاني والأغراض، وهذه الملكة القوية هي التي سماها الأستاذ، رحمه الله، بالتذوق.
وقبل أن نمر إلى نقل أقوال السابقين وتقعيداتهم، ومقارنتها بكلام الأستاذ شاكر، فإنه حقيق وجدير بي، أن أضرب لك مثالا على ما قررته في الذي سبق من هذا المقال، حتى يكون الأمر واضحا بينا عندك، ومن هذا أنك لا تجد في حديثه الخيال، كما تجده في كلام البلغاء وشعر الشعراء، فهو، صلى الله عليه وسلم، لا يذهب مذاهبهم في كلامه، فلا يحلق في فضاء الخيال ولايسكن قصور الأوهام، فلا يعتري كلامه نقص ولا تلحق به سوءة، و لذلك لا تجد فيه من الأغراض النفسية التي تجدها في كلامهم، ويكفي أن تسمع حديثه: ” حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة” فيكفي جمعه بين النساء والطيب، فذلك مبلغ التعبيرعن العاطفة والحب الذي لم يبلغ معشاره شاعر ولا بليغ، مع الخلو التام من أي تصوير أو وصف، وإنما هو السمو النفسي في أعلى تجلياته، وكيف لا، وقد جعل النساء كالطيب.
ودعني الآن أقدم إليك شيئا من كلام المحدثين، مما يتقارب في المعنى مع كلام الأستاذ وهو يبين عن منهجه ويصفه، فقد قال الإمام البلقيني: ” وشاهد هذا أن الإنسان لو خدم إنسانا سنتين، وعرف ما يحب ومايكره، فادعى إنسان آخر أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه كان يحبه، فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيبه”3.
وفي المعنى نفسه قال الربيع بن خثيم: ” إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهارنهرفه به، وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه به”4.
وهذا الذي نقلته إليك من كلام هاذين الإمامين، رحمهما الله، هو نفسه الذي تجده في قول الأستاذ شاكر، وهو يتلكم عن إحساسه بالشعر الجاهلي وتذوقه له، وكيف تمكن من إدراك الفوارق بينه وبين شعر العصور اللاحقة له، بل وكيف جعله يدرك الفرق بين نفس كل شاعر وآخر من شعراء الجاهلية، وهذا نص كلامه:
“وجدت يومئد في الشعر الجاهلي ترجيعا خفيفا غامضا، كأنه خفيف نسيم تسمع حسه و هو يتخلل أعواد نبات عميم متكاثف= أو رنين صوت شجي ينتهي إليك من بعيد في سكون ليل داج، وأنت محفوف بفضاء متباعد الأطراف. وكان هذا الترجيع الذي أنسته مشتركا بين شعراء الجاهلية الذين قرأت شعرهم، ثم يمتاز شاعر عن شاعر بجرس ونغمة وشمائل تتهادى فيها ألفاظه، ثم يختلف كل شاعر منهم في قصيدة قصيدة من شعره، وبدندنة تعلو وتخفت تبعا لحركة وجدانه مع كل غرض من أغراضه في هذا الشعر. ولا تظنن أني أزعم أن الشعر الأموي و الشعر العباسي كليهما خال خلوا تاما من هذه الظاهرة، كلا. ولكنني بالمقارنة وجدت ترجيع الشعر الجاهلي ورنينه ودندنته، مباينة كلها مبانة ظاهرة لما أجده في أكثر الشعر الأموي والشعر العباسي من الترجيع والرنين والدندنة. وهذا ليس مردودا بلا ريب إلى ألفاظ اللغة من حيث هي ألفاظ، ولا إلى أوزان الشعر من حيث هي أوزان. وكان بلوغي، يومئذ، إلى إادراك هذه الفروق أو تبينها تبينا يتيح لي التعبيرعنها، أمرا متعذرا، فما هو إلا التذوق المحض والإحساس المجرد. وبهذا التذوق المتتابع الذي ألفته، صار لكل شعر عندي مذاق وطعم وشذا ورائحة، وصار مذاق الشعر الجاهلي وطعمه وشذاه ورائحته بينا عندي، بل صار تميز بعض من بعض دالا يدلني على أصحابه”5.
فانظر قوله: “وكان هذا الترجيع الذي أنسته مشتركا بين شعراء الجاهلية الذين قرأت شعرهم، ثم يمتاز شاعر عن شاعر بجرس ونغمة وشمائل تتهادى فيها ألفاظه، ثم يختلف كل شاعر منهم في قصيدة قصيدة من شعره، وبدندنة تعلو وتخفت تبعا لحركة وجدانه مع كل غرض من أغراضه في هذا الشعر”، وهو نفسه القول الذي جاء عن الإمامين، إلا أن لكل واحد أسلوبه وألفاظه التي يبين بها عن نفسه ويعبر بها عما يتخالج في صدره، ولكن المعاني هي نفسها، وهذا حال أهل السنة والجماعة، فقد كانت أقوالهم واحدة، رغم تباين طرقهم واختلاف ألفاظهم، وتباعد الأزمنة الفاصلة بينهم.
وهو نفسه كلام الحافظ ابن رجب: ” قاعدة مهمة: حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم للرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك… وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم”6.
وارجع، إن شئت، إلى ما نقله الأستاذ شاكر، في الرسالة، من قول عبد القاهر الجورجاني7، واعرضه على ما نقلته إليك وقلته لك، لتعلم صحته.
وانظر قوله: “وكان بلوغي، يومئذ، إلى إدراك هذه الفروق أو تبينها تبينا يتيح لي التعبيرعنها، أمرا متعذرا، فما هو إلا التذوق المحض والإحساس المجرد.”، وقد كان ذلك قبل أن يهتدي، رحمه الله، إلى التقعيد والتأصيل، وهذا لا ينفي أن هناك حجة تختلج في نفسه، ولكنه وقف دون القدرة على الإبانة عنها، ونقلها من مجرد إحساس محض إلى ألفاظ يعرف معناها بالوضع العربي، وقول الأستاذ، هو نفسه قول ابن مهدي، الإمام المشهور، وهو يتكلم عن كيفية العلم بعلل الحديث، فقال: ” في معرفة العلل الحديث إلهام. لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة”8
أقول معلقا على كلام ابن مهدي: ليس مقصوده بقوله ” لم تكن له حجة” أنه قال ذلك عبثا وأطلق الحكم على عواهنه من غير تقصي أو بحث، لا ليس هذا مصود الإمام، وإنما لم يكن له سبيل للإبانة عن حجته، ولهذا قال ابن رجب: “وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم”، فهو الفهم والمعرفة، وأي حجة لا تقوم على فهم ومعرفة لا تسمى حجة، كما أنه ليس بعد العلم والمعرفة حجة، فحكمه وإن لم يعبر ساعتها عن حجته فيه، إلا أن الحجة موجودة في نفسه، وله في ذلك منهج مؤصل أوصله إلى حكمه، وسنعود إلى بيان ذلك.
ولكن، وقبل أن أمر إلى بيان المنهج الموصل إلى كيفية إصدارهم تلك الأحكام وكيفية إكتسابهم لتلك الملكة النفسية، التي سماها الأستاذ بالتذوق، فلابد لي من ضرب مثل علمي لهذا المنهج، والجميل في المثل أنه يجمع لك بين رجلين، أحدهما إمام من نقاد الحديث ورأس في معرفة الأخبار وهو الإمام الذهبي، والآخر إمام في الأدب وهو الجاحظ، وذلك أن الأول قال في ترجمته للثاني: “وله كتاب الحيوان ‘سبع مجلدات’، وأضاف إليه كتاب ‘النساء’ وهو فرق ما بين الذكر والأنثى، وكتاب ‘البغال’، و قد أضيف إليه كتاب سموه ‘الجمال’ ليس من كلام الجاحظ ولا يقاربه”9.
فتمعن قول الذهبي: ” ليس من كلام الجاحظ ولا يقاربه”، فهو يدل على الكلام نفسه الذي سبق وأوردته في هذا المقال، وهو صادر عن منهج صار عليه الذهبي حتى خلص إلى هذه النتيجة وانتهى إلى هذا الحكم، فقرر أن كتاب الجمال إنما هو منحول للجاحظ، وأنه ليس من كلامه في شيء ولا يقاربه، وليس فيه شيء من ذات نفسه وأغراضه.
*****
وحقيق وجدير بك، و بكل صاحب عقل سليم أو فكر مستقيم، أن يقول ويسأل: أي منهج هذا الذي لا يقوم على قواعد ولا يبنى على أصول، يمنع بها تطرق الهوى في الدراسة والأحكام؟؟ وهذا سؤال لابد منه، بل قبيح بكل من قرأ مقالي هذا ألا يسأل هذا السؤال، وأنا أقول دائما: نحن المسلمين ليس لدينا أجوبة لكل الأسئلة، و لكن لدينا أجوبة منطقية لأسئلة منطقية.
إن كل هذا الذي نقلته ّإليك وحدثتك به، وكل ما سبق لي ذكره في هذا المقال، إنما هو خاص بمرحلة واحدة، من مراحل المنهج، وهي المرحلة الأولى، وقد عرض لها الشيخ، رحمه الله بالذكر، و تكلم عنها بكلام جميل، وذلك أن لكل منهج ثلاث مراحل، لابد له منها، وهي:
- المرحلة الأولى: وهي ما قبل المنهج، وفيها يدور كل ما نقلته من كلام السابقين، وذلك أن العلوم الإنسانية على إختلاف مواضيعها وتباين مجالاتها، لابد أن يعمل المشتغلون بها عن طريق السليقة، والملكة النفسية والفكرية الحادثة لديهم، والقائمة على اللغة والدين والثقافة، بعيدا عن القواعد المكتوبة والنظريات المدونة.
- المرحلة الثانية: وهي مرحلة المنهج: وتحدث بعد أن تتم العلوم تمامها وتستوي على سوقها وتبلغ ذروتها، فيجلس أهل الشأن من أربابها والمشتغلين بها، ليقعدوا لها ويؤصلوا، فيجمعون شتاتها ويتتبعون شواردها، وينظرون في طرق أهلها وأساليبهم، وهذه هي المرحلة التي يدور حولها السؤال: أين هو هذا التقعيد في هذا المنهج؟؟ و سأجيبك عنه بعد أن أتكلم عن المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة: وهي مرحلة ما بعد المنهج، وفيها يبدأ النقاش والجدال بين المدافعين وبين المناهضين، وبين المدافين أنفسهم داخل المنهج، وقد أهمل الشيخ ذكر هذه المرحلة لأنه كان أحد فرسانها، يدفع فيها عن المنهج في مآزق الضلال وميادين الغواية.
وهذه هي مراحل المنهج وأزمنته، وقد حرصت جهدي في الإبانة عنها، وقضيت نحبي في إختصارها، وأما جواب السؤال، وكيفية وصول المحدثين إلى العلل وكشفها وبيانها، فكانت وسائله لديهم كالتالي:
بجمع روايات الحديث الواحد، أو أحاديث الباب، وفرز ما يظهر سلامته عن الذي يظهر ضعفه، وموازنة ما يظهر صحته وسلامته موازنة دقيقة سندا ومتنا، وموازنة نسق الرواة في الأسانيد كلها التي ذكروا فيها، ومقارنة ألفاظ المتون التي تم جمعها، وموازنتها فيما بينهما ثم عرضها على القواعد العامة، والتي من بينها الأغراض النفسية، مع ضم قرائن خارجية كثيرة، وهكذا يخص الناقد الحذق إلى معرفة العلة، و بيان مكمن الضعف، ولمن أراد المزيد فليرجع إلى ما قاله العلماء في باب العلل من كتب علم مصطلح الحديث.
وهذا البيان هو بيان مختصر إختصارا شديدا، ولو أردنا تتبع طرق المحدثين تتبعا تاما للزمنا زمن طويل سنوات من الدراسة الدقيقة والبيان الواضح، وهو موجود في كتب علم مصطلح الحديث، والكلام نفسه الذي نقلته لك أبان عنه الأستاذ شاكر، رحمه الله، وقد جعله منطلقا لدراسة خبر دير اللاذقية، وعليه أدار الكلام في كتابه “أباطيل و أسمار”، وإليك نص كلامه:
“فشطر المادة يتطلب، قبل كل شيء، جمعها من مظانها على وجع الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيثا دقيقا، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذر، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيف جليا واضحا، وما هو صحيح مستبينا ظاهرا، بلا غفلة، وبلا هوى، وبلا تسرع، أما شطر التطبيق فيقتضي إعادة تركيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها، باستيعاب أيضا، لكل احتمال للخطأ أو هوى أو تسرع، ثم على الدارس أن يتحرى لكل حقيقة من الحقائق موضعا هو حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها، خليق أن يشوه عمود الصورة تشويها بالغ القبح والشناعة”10.
وهذا كما ترى هو نفسه منهج المحدثين والنقاد البارعين، في نقد الروايات، و بيان عللها، وفصل صحيحها من سقيمها، ومن أراد المزيد من هذا المنهج، فسيجده في كتب علم الحديث، وهو علم كامل متكامل، وهو عبارة عن منهج ليس فقط لنقد الأخبار وتحري صحتها وكشف زيفها، وإنما هو منهج فكر وأسلوب من أساليب النظر وبناء العلم.
وقد كنت أمني النفس، بالتوسع أكثر في هذا المقال، وفي بيان هذا المنهج، وكشف أمور كثيرة عنه، ولكن علة مرضية نزلت بي، فحملتني على القعود دون قضاء وطري في بيان ما أردت بيانه، ولعل الله يأتي بفسحة من زمان ويرفع عني ما نزل بي، وأعود لإكمال ما بدأته هنا.
الحواشي:
1 نشرته في منتدى أنصار السنة
2 انظر كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لمحمود محمد شاكر ص 8 /طبعة دار القدس
3 تدريب الرواي للسيوطي ص: 211/ طبعة دار الغد الجديد/ تحقيق أحمد بن علي
4 نفس المصدر السابق
5 المتنبي لمحمود محمد شاكر ص11 / طبعة دار القدس
6 منهج النقد في علوم الحديث لنور الدين عتر ص452/ دار الفكر المعاصر
7 رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص9 و 10
8 منهج النقد ص 453
9 سير أعلام النبلاء ج11 ص528/ طبعة الرسالة
10 أباطيل وأسمار لمحمود محمد شاكر ص24 و25 / طبعة دار القدس