المناهج العقلية ومنهجيات التفكير : ا. م. د. سامي محمود ابراهيم محمود
تتعلق المنهجية بعملية التفكير وطبيعة الفكر الذي ينتج عنها. وترتبط بغاياته ومقاصده العامة. ولذلك فإن قضية المنهجية في بُعدها الفكري لا تنفصل عن الواقع والحياة. فغاية الفكر إقامة الحياة المثلى. وإذا انعزل الفكر عن الحياة فإنه يفقد فاعليته وتتجاوزه الحياة. وكذلك الحياة إذا غايرت الفكر السليم ضلت الطريق وسقطت في متاهات العدم.
وفي البداية نجد أن المنهجية هي إحدى أهم قضايا فلسفة العلوم في التصنيفات المعاصرة لمجالات المعرفة العلمية وتخصصاتها. ذلك أن أية محاولة لرصد واستعراض المناهج المعاصرة التي تهتم بمجالات فلسفة العلوم تكشف عن غياب كبير لمثل هذه الدارسات في العالم العربي الاسلامي، فيما عدا جهود متناثرة طفت على الهامش.
ان الأزمة الفكرية التي تعاني الأمة منها، ما هي إلا وجه من وجوه غياب المنهجية الفكرية، كما أن ميادين التأسيس المنهجي والرؤية النظرية في المنهج غير مطروقة تماما، وأن القليل المتوافر حول الموضوع محدود في التنبيه على إشكالية المنهج، وأهمية إعمال النظرة المنهجية والرؤية المنهجية والقراءة المنهجية. وقلما نجد ممارسة منهجية في المجالات المعرفية المختلفة يقوم بها أهل الاختصاص في هذه المجالات.
مسألة المنهجية تقوم على تحديد طبيعة الجهد اللازم لإعادة بناء الأمة ولتمكينها من أداء دورها، على اعتبار أن الأمة تعاني من انحراف خطير يتهددها، ويلزم تطوير علاج لأزمتها، ولتمكينها .
واذا كانت المنهجية هي علم بيان الطريق، فإن الوعي المنهجي ضرورة لازمة لأن الطريق قد يطول وتعتريه الكثير من العوارض وتتعدد فيه المنازل، فما بين المنحنيات التي قد تخرج السالك عن سبيله، وما بين المعارج التي قد ترتفع به لتفسح الآفاق، تكثر المزالق والمهلكات التي تتعثر إزاءها الخطوات، وعندها تكون المنهجية مصدرا لابتغاء الرشد.
أن أولى خطوات تحقيق النهضة، واستعادة الأمة لعافيتها، يقوم على الوعي المنهاجي وهذا الوعي يشكل المدخل الطبيعي للإقلاع الحضاري، إذ أن الوعي المنهاجي هو الطريق والخطة والاستراتيجية، والذي يتطلب بالضرورة وضوحا في خطوات البناء المنهجي، وفي سبل السعي للانتقال من مرحلة الى أخرى الأخذ بالأسباب وتنفيذ البرامج، ويتطلب هذا الوضوح قدرة على التمييز بين عملية بناء المفاهيم وعملية بناء الأطر المرجعية للتحقق من فعالية تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية.
إن أسباب ضمور الوعي المنهاجي في حياة الأمة، يعود إلى سلسلة الهزائم العسكرية والسياسية التي أطاحت بالعديد من الطموحات الفردية والجماعية للأمة، وحتى عندما كان هذا الوعي يبرز في بعض الخطابات الإصلاحية مثلا، لم يكن يذهب لعمق الإشكاليات التي تواجه الأمة، فهذا الوعي تجسد بمنهجيات أحادية قاصرة حيث كان البعض يدعو إلى منهج سلفي يقدس الماضي والثناء على السلف، والقطيعة مع مناهج الغرب. ومنهم من دعا إلى منهج حديث اعمل فيه فنون جلد الذات، والاختيار الانتقائي من التاريخ الإسلامي. والدعوة إلى القطيعة معه، والارتماء في أحضان الغرب لما له من عبقرية وسيادة. كل هذه النماذج من الوعي لم تستطع أن تنهض بديلا عن واقع متخلف متهالك، لهذا تصبح الدعوة إلى تجديد الوعي المنهاجي حاجة حضارية ماسة.
ويتطلب الوعي المنهجي بالضرورة وضوحا في خطوات البناء المنهجي، وفي سبل السعي للانتقال من الغاية إلى الأخذ بالأسباب وتنفيذ البرامج لتحقيقها، ويرتبط هذا الوضوح المطلوب بتوافر قدرات معينة، منها مثلا التمييز بين عملية بناء المفاهيم وعملية بناء الأطر المرجعية للتحقق من فعالية تلك المفاهيم ولتحقيق غاية المنهجية.
ولعل من المفيد في هذا المقام الإشارة باقتضاب إلى علاقة الوعي المنهجي بآليات التفكير الإنساني وصوره ومستوياته. يقولون إن العلم هو بمنهجه لا بموضوعه، أو على الأقل بمنهجه وموضوعه معا، فاكتساب العلم وحصول المعرفة والإدراك عند الإنسان عملية فاعلة ومنفعلة، إذ تتأثر منهجية الباحث بعقليته ونفسيته وسائر المؤثرات التي تشكل شخصيته، وتشترك في الوقت نفسه في صياغة الوعي العام في المجتمع وأنماطه الثقافية التي تحدد بدورها قضايا البحث العلمي وأولوياته ومعاييره.
وتؤثر منهجية التفكير في وعي الإنسان بالواقع؛ فعندما يفكر الإنسان ويحاول نقل الواقع كما يدركه، فإنه لا ينقل الواقع ذاته، وإنما يقترب منه بقدر ما يستخدم من منهجية مناسبة. وتتعلق هذه المحاولة بنتيجة التفاعل بين ثلاثة عناصر .
الأول هو المدركات القبلية المستقرة في ذهن الإنسان، وتتمثل عادة بمجموعة المبادئ والقيم التي تتصل بالفطرة أو تأتي من النظم والظروف الاجتماعية.
والثاني هو الأدوات التي يستخدمها والعمليات العقلية والشعورية وملكات الحدس والخيال والإرادة التي يمارسها.
والثالث هو الحقائق الموضوعية المرتبطة بالواقع؛ أي خصائصه الكمية والكيفية، وعلاقاته بما حوله.
ويتم التفاعل بين هذه العناصر في العقل الإنساني الذي يقوم بتنظيمها ضمن ما يسمى بالخبرة الإنسانية، وهذه الخبرة هي المضمون الذي يستخدمه الوعي الإنساني لفهم الواقع الطبيعي والاجتماعي، وإدراك موضوعاته وظواهره، وتفسيرها وبيان دلالاتها وإمكانات توظيفها في الفهم والسلوك. ومع ذلك فإن وعي الفرد الإنساني قد يكون وعياً مزيفاً؛ لأن الواقع الاجتماعي وظروفه وإرغاماته يفرض على الأفراد قيوداً وشروطاً تتطلب التماهي مع الثقافة السائدة والوعي الجمعي، وهذه الظاهرة هي أحد أسباب الركود والتوقف عن العطاء الفكري والحضاري للمجتمعات.
وأخطر أشكال التزييف أو الارتباك في الوعي هو ما يتعلق بالمنهج، فإن افتقاد الوعي المنهجي “يجعلنا ننحرف بالمنهاجية ووظيفتها، بل قد يتطرق بنا الأمر إلى الاطلاق على بعض منها اسم المنهج، رغم أنها لا تمت لهذه التسمية بصلة؛ فالمنهاجية في حقيقتها تعد مصدرا لابتغاء الرشد وتحقيق الوعي، فإذا كان المنهج هو الطريق الموصل إلى المقصد فإنه يفرض علم الطريق وبيان الوصول، وبقدر صحة منطلقاته وسلامة وجهته يكون قيامه مقام المرشد الأمين الذي يبين معالم الطريق.
المناهج العقلية ومنهجيات التفكير : ا. م. د. سامي محمود ابراهيم محمود. قسم الفلسفة / كلية الاداب/ جامعة الموصل/ العراق