القيم الحضارية في الإيمان بالله وتوحيده -أ.د. موفق الجوادي

القيم الحضارية في الإيمان بالله وتوحيده
أ.د. موفق الجوادي
لعراق / جامعة الموصل . كلية الآداب
تُعرف القيم بأنها وحدات أساسية للحكم على سلوك الأفراد والجماعات وتقويمها،كما تشكل في الوقت نفسه محطات ينبغي بلوغها للارتقاء بالسلوك الفردي والجمعي نحو ما هو أفضل وأسمى ، ويرى علماء الاجتماع أن القيم تتبلور عبر تفاعل الإنسان مع بيئته وما تفرزه من معطيات في جوانب الحياة المختلفة . إلا أننا كمسلمين نرى أن القيم إنما هي تشريع إلهي، فبما أنها تسهم في صياغة السلوك الإنساني وبلورته، فلابد من أن يكون ذلك على أسس لا يتخللها أي زيغ أو انحراف أو خلل، فإذا تُرك ذلك للإنسان وحده فلا اطمئنان إلى سلامة النتائج بوصف أن القيم تنشد الكمال والمثال، وبما أن الإنسان مجبول على النقص لذا لا يمكن أن يخلو عمله من نقص أيضاً،ومن هنا توجب أن يكون مصدر هذه القيم هو الوحي لضمان سلامة النتائج التي ستترتب عليها .
والقيم الحضارية هي وحدات تقويم السلوك الحضاري لأمة من الأمم، وبالاستناد إليها يمكن توصيفها بأوصاف معينة تعكس هوية تلك الحضارة، وهي فضلاً عن ذلك محطات ينبغي بلوغها لكي يسمو بناؤها الحضاري صوب الأنموذج الذي يحقق أفضل بناء .
والإيمان بالله يعني التسليم المطلق بوجود إله مهيمن على هذا الكون له من الأسماء والصفات التي تليق بجلاله، مع التسليم التام لما جاء به الوحي منزلاً من عنده على مَن اصطفى من رسله، أما التوحيد فهو رأس سنام الإسلام وغايته القصوى وصفته التي بات متفرداً بها عما سواه من أديان بعدما زاغ الآخرون وحرفوا أديانهم، فمن وافى يوم القيامة موحداً فقد نجا، ومن وافى مشركاً بالله تعالى فلا نجاة له؛ وإن بلغت أعماله الصالحات وزن الجبال أو عدد الرمال ، فإن مصيره إلى النار لا محالة، قال الله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۚ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، فصلاح العقيدة أصل وأساس لصلاح العمل ، فالعمل الصالح لا ينفع معه شرك بالله البتة
والتوحيد؛ كما هو معهود، إفراد الله سبحانه وتعالى بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، ويعني توحيد الربوبية أن الله جل شأنه هو الخالق المالك المدبر وحده لهذا الكون ، قال الله تعالى : (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، والخالق الذي أوجد الكون من العدم يكون بداهة هو المالك له وحده أيضا ( سورة لقمان ، الآية : 25 ) ، فحتى المشركون يقرون بداهة أن الله (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ، ويترتب على ذلك أن للمالك وحده حق التصرف في ملكه وملكوته (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)
في الوقت نفسه ، فيكون الله تعالى وحد المستحق لأن يُعبد ويُطاع ،وعبادته تكون بالفرائض التي افترضها على عباده المؤمنين ، والتقرب إليه وحده بالطاعات وبأعمال التعظيم،وباتجاه النية إليه وحده في العبادات والقربات ، وأن يكون الدعاء والسؤال والاستعانة والاستغاثة به وحده فيما يخرج عن قدرات المخلوقين المعهودة ، وأن لا يُطاع غيره في معصيته في أي شأن مهما كان يسيراً ، فذلك قدح في التوحيد ، وإثبات هذه الإلهية لله أما توحيد الألوهية فيتضمن نفياً وإثباتاً ، نفي أن يكون هناك إلهاً آخر مع الله
من سخاء وكرم ورحمة وما إلى ذلك . أما توحيد الأسماء والصفات فيعني إفراد الله تعاظم شأنه بأسمائه وصفاته الإلهية سواء أكانت صفات ذات أم صفات أعمال ، إلا بقدر ما يقتدى به بالله
فما القيم الحضارية المترتبة على الإيمان بالله وتوحيده ؟ وما أثرها على السلوك الإنساني وكيف ترتقي به في كينونته الحضارية بما يمنح حضارتنا الإسلامية هويتها وطابعها المميزين ؟ مع اعتقادنا أن الحضارة دين ، أو أنها الوجه العملي للدين في سعي الإنسان لإنفاذ مهمة الاستخلاف في الأرض . وهكذا كانت حضارتنا إسلامية ،وحضارة أوربا في العصور الوسطى نصرانية ، وحضارة الصين كونفشيوسية ، وحضارة الإغريق وثنية،وحضارة الغرب اليوم نصرانية متعلمنة .
- تحرير الوجدان الإنساني
إلها ، سقط في عبادة غيره ، وهذا الغير قد يكون صنماً أو وثناً أو حيواناً بحسب الديانات الطوطمية ، أو قد يكون إنساناً فعبدت بعض الشعوب ملوكها وأباطرتها ، وأبرز مثال على ذلك الفراعنة الذين عبدهم المصريون القدماء حتى قال أحدهم :جُبل الإنسان على غريزة التدين ، فلا يسعه العيش من دون دين يلوذ به ويركن إليه بما يحقق له الاطمئنان والاستقرار النفسي في مواجهته لتعقيدات الحياة العملية ، ومن ثم لابد له من إله يعبده ويتقرب إليه ، ويستشعر معه بالأمن والأمان والعدل والحق ، وعليه فمن لم يتخذ الله (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ). واليوم ما زالت جذور هذه العبادة قائمة ، فمن يُعظم القادة والرؤساء والملوك ويتقرب إليهم بما هو من اختصاص الله سبحانه يكون قد ذل في العبودية لهم ، ومن يطيعهم فيما فيه معصية الله تعالى بتحريم الحلال وجعل الحرام حلالاً وقع في العبودية لهم ، ومن يتبع مفكراً أو فيلسوفاً متخذاً من منهجه شريعة له وفيها معصية لله تعالى يكون قد دان بالعبودية له ، ومن تبع رجل دين بما فيه معصية لله تعالى يكون قد اتخذه رباً من دون الله 🙁 اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، بأن صدقوهم وأطاعوهم فيما حرفوا في أديانهم فحرموا الحلال وأحلوا الحرام .
ذل وهان وفقد حريته وإرادته مهما بدا عليه عكس ذلك .I بقوله لرستم قائد جيوش الفرس في معركة القادسية لما سأله عما يريد هؤلاء الأعراب وما أخرجهم من الصحراء ، قال : ( إن الله ابتعثنا لنُخرج من نشاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ) . فعبادة العباد تجعل من الدنيا سجناً ضيقاً يفقد فيه الإنسان حريته وإرادته ، مسلوب الكرامة والآدمية ، ويضيع مع ذلك العدل والحق . فكلما ازداد المرء عبودية لله تعالى اتسعت حريته وترسخت أكثر فأكثر ، فيكون حر الإرادة وحر الفكر وحر القرار . ومن دان بالعبودية لغير الله وحده يكون قد حرر رقبته ووجدانه من ذل العبودية لغيره ، وصان كرامته وآدميته من أن يذلها أحد من البشر ، وخير من عبر عن ذلك الأثر المنسوب لربعي بن عامر لذلك فمن دان بالعبودية لله
- الارتقاء بجودة الأداء
:Iيترتب على الإيمان بالله وتوحيده ضرورة إخلاص النية له في العمل ، ومن دون هذا الإخلاص يُحبط العمل ولا يُؤجر عليه صاحبه ، قال الله تعالى (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً )، وبوسع المرء أن يحصل على الثواب في سائر عمله اليومي حتى وإن لم يكن هذا العمل تعبدياً أو من أعمال القربات ، فإذا نوى المرء أن يتجه في عمله إلى الله تعالى وأخلص النية في ذلك ، غدا هذا العمل من القربات التي يترتب عليها الأجر . وهنا تبدأ فاصلة جديدة في العمل ، فمن نوى إخلاص النية لله تعالى لابد من أن يكون عمله صالحاً ، ويكون العمل صالحاً من وجهين ؛ الأول أن يكون صالحاً في ذاته ، فلا يكون مما نهى الله تعالى عنه من المنكرات والمكروهات ، ويكون ثانياً صالحاً في صفاته خالياً من النقص والعيب ، فإن الله تعالى لا يقبل الأضحية التي فيها عيب ، فالله تعالى طيب لا يحب إلا طيب ، وتعظيم الله يقتضي أن يكون ما يقدم له من عمل على أتم وجه وأكمله ، فبذل النية لله جل شأنه يقتضي بذل أعلى جهد وأفضل مهارة في أداء الأعمال ، وهو ما ينجم عنه رقي الأداء ورقي الثمرة الناجمة عنه . وهكذا يرتقي الإنسان بنفسه وعمله وترتقي عملية البناء الحضاري .
- قوة الشخصية وثباتها
: (الفرد شخص اجتماعي يعيش في وسط إنساني متفاعل ، وهو وحدة ولبنة أساسية في البناء الاجتماعي ، وبالقدر الذي تكون في هذه اللبنة قوية وراسخة يكون تأثيرها في الوسط أكثر فاعلية وأكثر تأثيراً وأكثر إسهاما في تحقيق التحول الحضاري ، قال النبي الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ) . ولكن ما صلة الإيمان بالله تعالى وتوحيده بقوة الشخصية ؟
في الحقيقة الصلة قوية وحقيقية وليست ظاهرية أو شكلية ، فالمؤمن الموحد يعلم أن الرزاق هو الله تعالى وحده (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ )(. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ )، فليس هناك ما يدعو للقلق والخشية على الرزق من أن تتولاه يد غير يد الله تعالى ، والآجال هي الأخرى بيد الله (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، وفي الحديث ( إنّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أربَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً ثمَّ يكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك ثمَّ يكونُ مُضْغةً مِثْلَ ذلك ثمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إليهِ مَلَكاً ويؤْمَرُ بأرْبَعِ كَلِماتٍ ويُقالُ لهُ اكتُبْ عَمَلَهُ ورِزْقَهُ وأجَلَهُ وشَقِيٌ أوْ سَعِيدٌ ثمَّ يَنْفُخ فيهِ الرُّوحَ ) وعليه فليس ثم مَن يتدخل في شأن رزق الإنسان أو أجله إلا بما يشاء الله جل جلاله ، ومن ثم لا داعي للقلق والخوف .
قوله : ( اعلم أن قولك الحق لن يُؤخر رزقاً ولن يُقدم أجلاً ) ، وهنا لا يكون المؤمن خانعاً ذليلاً مرتعباً وأمره في أهم مفصلين في حياته بيد الله تعالى : الرزق والأجل ، فيكون شجاعاً ثابتاً صادحاً بالحق ، بؤرة للفاعلية الإيجابية نحو التغيير المنشود حضارياً . ومن هنا أطلق الفاروق عمر بن الخطاب
- الاستقامة في السلوك
تعد الاستقامة في السلوك الشخصي من أهم ما يترتب على الإيمان بالله تعالى ، فلا معنى حقيقي للإيمان بالله ما لم يترتب على ذلك التزام أوامره ونواهيه أولاً ، والخوف منه سبحانه ومن وعيده للكفار والعصاة بالنار ، والطمع بوعده للمؤمنين بالثواب والنعيم الدائم في الجنة ، ثم الإيمان بصفاته ثالثاً ومنها إن الله عالم الغيب والشهادة لا تخفى عليه خافية وإن كانت بمثاقيل الذر فهو السميع البصير ، فضلاً عن معية الله تعالى لخلقه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ) معية علم واطلاع ومعرفة بأحوال العباد أينما كانوا وكيفما كانوا .
كل ذلك يوجب على المؤمنين الحياء من الله تعالى أن يطلع عليهم وهم في حال معصية ، وقد أنحى الله تعالى باللائمة على مذنبين يستحيون من الخلق ولا يستحيون من الخالق (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا )، ومن هنا حث الإسلام على الحياء ( الْحَيَاء شُعْبَة مِنْ الْإِيمَان ) والحياء لا يأتي إلا بخير ، وقد تبلور أن الحياء صفة أساسية ملازمة للمؤمنين الصادقين ، ليسفر ذلك عن سلوك أخلاقي رفيع يحفظ قيم المجتمع ونواميسه وأعرافه ويصونها ، حتى عرفت مجتمعاتنا لزمن طويل أنها مجتمعات محافظة ، تعبيراً عن صدق التزامها بقيمها وثوابتها الأخلاقية الشرعية ، ولما بدأ أعداء الإسلام بالتخطيط لضرب قيم مجتمعاتنا كان أول ما استهدفوه ضرب الحياء ، فذلك بادرة تُسهم في انطلاق الفاحشة على أوسع نطاق ، ولقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً .
زد على ذلك أن الإيمان بالله يقتضي الخوف منه ، فهو شديد العقاب ، وكلما ازداد المرء معرفة بالله زاد خوفه منه ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ ) ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، وتيهئوا للعرض الأكبر يرحمكم الله ) ومن هنا كان الصالحون يوصفون بأنهم وقّافون ، يتوقفون عند الهم بأي عمل لينظروا هل هو مما يُرضي الله سبحانه أم مما يُسخطه ، فإن كان مما يُرضيه مضوا فيه وإلا توقفوا وامتنعوا ، وعلى هذا المنوال يستقيم السلوك الانساني ويأخذ الأبعاد الشرعية السليمة ، فينموا المجتمع على الفضيلة واستواء السلوك وسلامته، والخوف من الله يقتضي دوام المحاسبة ، كما قال الفاروق عمر
- رجاحة التفكير العقلي
من أبرز ما ميز الإسلام تلك الدعوة الظاهرة والفاعلة للتفكير العقلي ونبذ أية اتجاهات خرافية وغير عقلانية ، وقد زخر القرآن الكريم بعبارات من قبيل ( إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون ) و (إن في ذلك لآيات لقومٍ يعقلون) بل إن الإيمان بالله تعالى يجب وينبغي ويتحتم أن يكون عقلياً بالاستعانة بالأدلة والقرائن العقلية والمادية الملموسة أو المدركة عقلاً ، فمتى رسخ الإيمان العقلي بالله تعالى انقاد المؤمن للإيمان بالنقل عنه سبحانه وتعالى وسهل التسليم به.
وفي هذا السياق فإن الله تعالى وحده علام الغيوب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) ، ومن ثم فإن مَن زعم علمه بالغيب من كاهن وعراف وساحر وقارئ كف أو فنجان إنما هو مفتر على الله تعالى . ومَن لجأ إلى واحد من هؤلاء واستعان به يكون قد قدح في إيمانه وتوحيده قدحاً كبيراً لا يبرأ منه إلا بتوبة صادقة نصوحاً .
وفي سياق مواز فإن مَن اعتقد أن للمخلوقين قوة مماثلة لقوة الله تعالى ولجأ إليها معتقداً بدورها في إغاثته فقد أخطأ خطأ فادحاً ، فليس للأولياء والصالحين بعد وفاتهم حول أو طول أو قوة ، والاستعانة بهم محض خلل في التفكير ينم عن عقل قاصر ، فالحَول والطَول مقصوران لله تعالى ( إِذَا سَأَلْتَ فَسَأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) ، ويتصل بذلك عدم جواز التوسط بهم للوصول إلى الله تعالى بعد موتهم ، وقد قال المولى (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ )من دون الحاجة إلى وسيط قد توفاه الله ، ألا ترى أن إبليسا دعا ربه فأجابه من دون وسيط وهو العاصي ربه ، وأن دعوة المظلوم مجابة وإن كان كافراً ، وإبليس لم يتوسل بأحد ، والكافر لا يتوسل بقبر ولا شباك ، أفلا يكون حرياً بالمؤمن أن يكون أكثر عقلانية وإيماناً من هؤلاء فيلوذ بالله مباشرة من دون وسيط . طارحاً عن نفسه الجهالة والخرافة والتفكير غير المنطقي ؟!
- سقوط كل دعوات التعصب
الإيمان بالله يُسقط كل نعرة سلبية ، فلا عنصرية ولا عرقية ولا شوفينية ، ولا عشائرية ولا قَبَلية ، ولا مناطقية ولا بُلدانية ، فإن الله تعالى لا يفاضل بين الناس بناءً على عرقهم أو عشائرهم أو بلدانهم(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فأساس المفاضلة بين الخلق هو تقوى الله تعالى ومخافته ومن ثم اجتناب معاصيه ومساخطه . والتقرب إليه بما يُرضيه .
بل إن تفضيل هؤلاء لتقواهم هو أولاً من شأن الله تعالى ، ويكون ذلك في الآخرة وعند الحساب ثانياً ، بمعنى أن العباد يتساوون جميعاً في الحقوق والواجبات في ظل حكم الإسلام ، فأرواحهم وأموالهم وأعراضهم ومساكنهم وأعمالهم مُصانة ولها حُرمة تمنع من التعدي عليها إلا بحقها ، وأن حقهم في العمل والكسب والعيش ليس دونه حجر أو منع ، فالله تعالى لم يعط للمؤمنين تفضيلاً ولم يمنع الكافرين إعراضاً ، والله تعالى لم يُسخر مخلوقاته ورزقه للمؤمنين وحدهم بل عمن سائر خلقه مؤمنهم وعاصيهم وكافرهم (كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) في رسالة له إلى عامله على مصر إن الناس واحد من اثنين أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ، فلا استهانة بإنسان يعيش بين ظهراني المسلمين لأي سبب إلا بما أوجبه الشرع . ابتلاءً واختباراً . ولقد قال علي
مع عباده جميعاً ، بحسن التعامل وحسن المعاشرة مع غير المسلمين ، ليكون هذا السلوك بمثابة طريقة ومنهج في الدعوة إلى الإسلام ، ولقد نجح تجار المسلمين بحسن خُلقهم في تحويل شعوب بأسرها إلى الإسلام كما هو حال شعوب جنوب شرق آسيا والشعوب الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى . ومن هنا يتوجب حسن الأسوة بصنيع الله
- صون قيمة الإنسان
آدم بأن خلقه بيديه من دون سائر مخلوقاته ذوات الأرواح خص الله (. قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ) ولما تم الخلق نفخ الله فيه من روحه ثم أمر الملائكة بالسجود له( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ). وهذ مما يشرف قدر الإنسان ويرفعه فوق سائر مخلوقته ، فقد خصه المولى تعاظم شأنه بأن خلقه بيده ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لصنع الله ، ثم خصه بالخلقة القويمة ، وميزه بالعقل ، وميزه أنه علمه بنفسه (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ثم ميزه بالحرية ، حرية الإرادة والاختيار بما لم يمنحه لأحد من خلقه (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وسخر له سائر مخلوقاته الأخرى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) وفي الأثر (إن الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه) .
كل هذه الشواهد تملي بالضرورة احترام كرامة الانسان واحترام آدميته فلا تجوز إهانته والتنقص من قدره ، وعندما نقول الإنسان فالمراد سائر البشر بغض النظر عن أية اعتبارات دينية أو عرقية أو طبقية أو أية اعتبارات أخرى مماثلة ، فالبشر في الحقوق متساوون في الحياة الدنيا ، ثم يوم القيامة يسأل الله تعالى عباده ويحاسبهم على أعمالهم ، وبناءً على ذلك فللإنسان حرمة وصيانة تحفظ له كيانه من التنقص في ذاته وماله وعرضه وسائر شأنه إلا بحق شرعي نص عليه الشارع . فالإنسان قيمة عليا يستحق العناية والرعاية والمحافظة عليه من بوادر السوء والأذى والضرر في كل ألوان معاملاته اليومية ومع الجهات كافة مجتمعية أو حكومية ، مدنية أو أمنية ، داخلية أو خارجية .
عن شاة تعثرت في أرض الحيرة . ان يسـأله الله ويدخل في ذلك حفظ كرامة الإنسان في عيشه بكفالة العيش الكريم الذي يحفظه من العوز والمهانة ، وهذه مسؤولية عامة تتحملها الأمة والحكومة ، كل بحسب ما يترتب عليه شرعأً من موقعه وقدراته وصلاحياته من دون بخس او تقصير وإلا وقع الإثم على من يتحملون ذلك الواجب . فالأمة مسؤولة بما افترض عليها من فرائضه أو ندب إليه من القربات ، والحكومة مسؤولة مسؤولية يومية مباشرة عن كل صغير وكبير في حياة مواطنيها ، ولقد خاف الفاروق عمر
- الأخوة الإيمانية
فقد تشعبت بالإنسان السبل وغربته عن المنهج الحق وبنى علاقاته على اعتبارات لا تمتلك الشرعية والمصداقية ، فظهرت النعرات العصبية ؛ العرقية والعشائرية والمناطقية والحزبية التي فرقت بين الأخوة ، في وقت أراد الله لعباده أن يكونوا أخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)ونبذ الاعتبارات الأخرى ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )، فالعلاقات الاجتماعية مهما كانت مرتبتها والعلاقات الاقتصادية والمناطقية لا يمكن أن تحل بديلاً عن الأخوة الإيمانية ، حتى وإن كانت صلة مع أب أو أخ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وهكذا تظهر الجماعة المؤمنة جماعة قوية متماسكة يشد بعضها أزر بعض ، متعاونين متضامنين يكفل بعضهم بعضاً في الشدائد والملمات ، ولنا في نظام المؤاخاة الذي أوجده النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين بعد الهجرة خير مثال على هذه الآصرة القوية والفعالة .
لهؤلاء من الحقوق ما يصونهم ويحفظهم من الاعتداء عليهم ، في عقد اجتماعي عرفوا بموجبه أنهم ( أهل الذمة ) أي أنهم في ذمة الله ورسوله ، وهم بذلك يدخلون في مفهوم المواطنة بدلالاته المعاصرة التي لا تتقاطع مع الأحكام الشرعية التي كفلت وضع الأسس المناسبة لتعايش سلمي إيجابي بين الجميع في الإطار الإسلامي ، من دون طمس لحقوقهم أو هويتهم وخصوصياتهم . إلا أن هذه الأخوة لا تعني إشهار العداوة مع الآخرين ، ولاسيما عندما يكونون في دائرة الدولة والأمة الإسلامية ، فقد كفل شرع الله
- الإيجابية والفاعلية
في القيام بواجب الاصلاح في المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكرIفكما أن العبد يحرص على مرضاة سيده كذلك يحرص المؤمن الموحد لله تعالى على مرضاة ربه ، فذلك أغلى وأثمن ما يتمناه المرء ، فبها ينجو من عذاب الآخرة ويفوز بالجنة ونعيمها الدائم ، قال ابن القيم : ( رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك ، فاترك ما لا يدرك وادرك ما لا يترك ) ، وتحقيق مرضاة الله تعالى تكون بأعمال كثيرة لا حصر لها ، منها العبادات المفترضة والعبادات القلبية من ذكر ونحوه ، وهي جميعاً مدعاة للاستقامة في السلوك ، كما تقدم ذكره ، ومنها التزام منهج الله(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وقول النبي مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ ) ويكون ذلك على وفق السياقات الشرعية المعهودة ، زد على ذلك أعمال البر التي لا حصر لأبوابها ، كل ذلك يجعل من المؤمن بؤرة اشعاع إيجابية فاعلة تسعى لإصلاح المجتمع نحو الأفضل والأحسن من الوجوه كافة . وهذا الفعل ليس له أمد ينقضي عنده بل إنه يستمر حتى آخر رمق ( إذا قامَتِ السّاعَةُ وفي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فلَيَغْرِسْها ) وهذ التصوير من أعظم ما يعكس فاعلية الإنسان وإيجابيته كما يريدها الإسلام .
- التزام المنهج القويم في الاستخلاف
الإنسان وأناط به مهمة الاستخلاف في الأرض بغية إعمارها خلق الله (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، وقوله (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) ، فالإنسان حمل أمانة السعي في الأرض وإعمارها ، وبما أن لهذه المهمة سبل شتى لا تحصى ، وبما أن فيها ما هو صالح وما هو غير ذلك (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) ، لذلك تولى الله تعاظم أمره مهمة بيان المنهج الذي يضمن سلامة إنجاز المهمة التي تحملها ابن آدم(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وأما من تشعبت به السبل وضلت فلا أمل لهم بالنجاة (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ، فلا فيلسوف ولا مفكر ولا مصلح ولا عبقري يشفع لتابعيه إذا كان منهجه غير موافق لما جاء به الحق (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) في الاستخلاف والإعمار بإقامة أحكامه الشرعية في الأرض في المعاملات والأخلاق والفضائل. ومن هنا فإن أعظم ما يمكن أن يلتزمه الإنسان ليشيد حضارة على أسمى ما تكون مادياً وأخلاقياً هو التزام منهج الله
- العمق الروحي
عندما ننعم النظر في شأن الإيمان بالله وتوحيده نجدهما من أهم ما يحقق للإنسان اطمئنانه الروحي المتعلق بحالته القائمة وبمصيره الأخروي (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) قد حرم الظلم على نفسه وحرمه على خلقه ، وفي الآخرة تنصب موازين الحق والعدل التي تزن الأعمال وإن كانت بموازين الذر ، فهذا الإيمان مدعاة للاطمئنان والاستقرار النفسيين ، فضلاً عن الاطمئنان على المصير في الآخرة ، فإن الله ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ، ولا بخس في الميزان( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، وإن كان هذا لا يعني الخنوع للظلمة انتظاراً للإنصاف في الآخرة ، بل يعني أن مَن لم ينصفه قاضي الأرض فسينصفه قاضي السماء ، ومَن ظلمه قاضي الدنيا سينتصر له قاضي الآخرة، وهذا يرسخ في النفس إلى أن الحقوق لا تضيع عند الله
ويعني ذلك من ناحية أخرى أن عمل الإنسان يسير في خط متصل بين الأرض والسماء ، بين الدنيا والآخرة ، فلا يتوهم المرء كما توهم الدهريون من قبل والملاحدة اليوم أن عمل الإنسان له مصير واحد ينتهي بموته ، بل إن عمله يسير بخطى حثيثة ليبلغ الآخرة إن كان خيراً فخيراً ، وإن كان شراً فشراً .
من كل ما سلف يتبين أن الإيمان بالله وتوحيده يحملان من القيم الحضارية ما يرتقي بالبناء الحضاري للأمة الإسلامية إلى مصاف لا يبلغها أحد في كمالها وتمامها من دون الإيمان والتوحيد ، ومهما بلغته الحضارات من رقي مادي لكنها لا تمتلك الروح والقيم السامية ، فتبقى حضارة مادية لا تلبي حاجات الإنسان في تمامها وضرورتها ، وهذا هو عين ما تفتقده الحضارة الغربية اليوم ، فمع ما حققته من رقي مادي لكنها لا توفر لأصحابها الاطمئنان واليقين اللازمين لديمومة حياة الإنسان على وفق النسق الصالح .