الفَنْقَلةُ مع اللاقرآنيين-د.بلال فيصل البحر

الفَنْقَلةُ مع اللاقرآنيين
د.بلال فيصل البحر
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:
فقد قرأتُ لبعض الدكاترة من ( اللاقرآنيين) زعم أنه يأخذ بالقرآن دون السنة، فيقال له ولأترابه اللاقرآنيين على عُجالة من جهة المباحثة:
أخبرونا عن السنة ما هي.؟
فإن قالوا: ليس كما تقولون: إنـها: (فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله وتقريره وصفته) فقد ناقضوا الإجماع المستقر وما جرى عليه عمل الأمة (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) الآية.!
فإن قالوا إنـها: فهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن، قيل لهم: فالمسألة خلافية بينكم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أفندع فهم من أُنزل عليه القرآن، ونتكل على أفهامكم.!؟
فإن قالوا: الشأن في ثبوت السنن وفهم ظواهرها وتفسيرها، قيل لهم: هذا مشترك بينكم وبين النُّظّار والباحثين، والحاكم اللغة والأصول وقواعد النقاد.
فإن قالوا: لا تلزمنا قواعدهم وأصولهم، قيل لهم: هذه مكابرة ظاهرة لأن الأصول والقواعد، أساليب مشتركة بين العقلاء، ومن خرج عن حدودها وضوابطها كان تصرفه من جنس العبث الذي يرفع الخطاب معه، فيستوي مع العوام.
فإن قالوا: لنا قواعدنا وأصولنا، طولبوا بإظهارها ودونـهم خرط القتاد، فلم يبق إلا أنـهم يفهمون ظواهر النصوص بأهوائهم دون أصول، فهو من جنس اللعب.
فإن قالوا: الفعل النبوي ليس من سنته التشريعية، قيل لهم: خبّرونا عن فعله: هل يخالف القرآن أو يوافقه؟ فإن قالوا: يخالفه، فقد كفروا بالنص والإجماع، وإن قالوا: يوافقه: فقد أقروا ببطلان قولهم، وقد قالت السيدة عائشة (كان خُلقه القرآن).
فإن قالوا: فعله غير ملزم الاتباع، قيل لهم: أجمعنا على أن فعله تفسير عملي للقرآن ولسنته القولية، فأيهما أولى بالاتباع،تفسيره العملي للقران أم تفسيركم أنتم.؟
فإن قالوا: تفسيرنا كفروا بالنص والإجماع، وإن قالوا: تفسيره عليه الصلاة والسلام،سقط قولهم، على أن من لم يسعه فعلُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا وسّع الله عليه.!
فإن قالوا: تغيُّر أحوال العصر يقتضي تركَ فعله الذي خرج على مقتضى واقع عصره، قيل: لا يخلو فعله أن يكون لعلة في زمانـه أو مطلقاً عن العلة، فالأول يمكن أن يُترك لزوال علة زمانه، والثاني لا، لما تقرر أن الفعل النبوي إذا كان مطلقاً فهو يستوعب الزمان والمكان، فإذا تغيّر واقعُ العصر، لم يلزم منه ترك مطلق الفعل النبوي، وإنما يقتضي تغيّر دلالته على المطلوب بحسب تغيّر الواقع، كالقول سواء.
فإن قالوا: المراد أنه لا يجب به شرع، قلنا: تعيين دلالة الوجوب من عدمها مشترك في البحث بين النُّظّار، وقد قال العلامة السَّفَّاريني في موضع من (شرح العمدة): (الفعل النبوي إذا كان في مقام التأسي فهو أبلغ من القول).
فإن مثّلوا بنحو واقعة تلقيح النخل، قيل هذا خارج عن محل البحث لأنه من أفعال الجِبلّة، فلا موقع للتمثيل به هنا، وإن مثّلوا بنحو الرؤية في الصوم، قيل لهم: هذا من باب الوسائل، والكلام إنما هو في المقاصد.!
فإن قالوا: سنته ليست وحياً، قيل لهم: ظاهر القران الذي تزعمون اتباعه يناقض دعواكم، وكذا الإجماع الذي نقله الحافظ أبو محمد بن حزم والإمام أبو المظفر السمعاني وغيرهما من أهل الأصول، وعلى التنزل أنـها ليست منه، فقد أجمعنا على أنـها تفسيره للوحي، فعاد البحث السابق: أيهما أولى بالاتباع، تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوحي بفعله وقوله، أو تفسيركم.؟!
فإن قالوا: لا نقبل السنةَ حتى نعرضها على القران والأصول، فما وافقها منه قبلناه وإلا فلا، قيل لهم على التنزل: خبّرونا عن الحديث إذا صح بيقين عنه عليه الصلاة والسلام، أيخالف الأصول أو يوافقها.؟
فإن قالوا: يخالفها، فقد خالفو االنص والإجماع على امتناع تعارض العقل والنقل والأصل، وإن قالوا: يوافقها، فقد بطل قولهم.
فإن قالوا: نقصد خبر الآحاد، قيل لهم: غاية هذا تنتهي إلى أربعة وجوه: فإما ضعيف مخالف للأصول، وهو مردود بلا نزاع، وإما ضعيف موافق لها، فهو مقبول بلا نزاع، أو صحيح مخالف لها، فهو مردود عند عامة الأئمة، إلا بعض غلاة المحدثين الذين ورد فيهم الذمُّ باتباع غرائب المرويات ومعارضتها بالقران والعمل والأصول.
وعليهم يتنزل نحو قوله تعالى (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) وقول عمر (حسبنا كتاب الله) ونحو ذلك، كما يتنزل قوله تعالى: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) على من نبذ الكتاب واتبع صحائف الأولين، وهم المتهوكون الذين ورد فيهم حديث المثناة وهو (إن من أشراط الساعة أن تُتلى الـمَثناةُ فلا يوجدُ من يُغيِّرُها) فقيل له: وما الـمَثناة؟ قال: (ما استُكْتِبَ من كتابٍ غير القران..) الحديث.
وقد توهم الألباني رحمه الله شمول خبر المثناة هذا، لكتب مذاهب الفقهاء، ونقضنا مقالته في جزء مفرد مطبوع، كما توهم اللآقرانيون شموله للسنن والأحاديث، وكلاهما غلط محض، ومقالة اللاقرآنيين قديمة قد بليت وخلقت، وقد صنف العلامة أبو الحسنبن بَرّجان كتاباً في نقضها وإثبات معاضدة السنة للقران.
فهؤلاء اللآقرانيون صنعوا كما صنع نابتة الخوارج الذين عمدوا إلى نصوص في الكفار فأنزلوها على المسلمين، واللآقرانيون عمدوا إلى نصوص فيمن يعارض القران بصحف وتراتيل وأقاصيص الأولين، وأنزلوها على السنن والأحاديث ومذاهب الأئمة الفقهاء.!
والعجب أن منهم من يُعظّم كلامَ داروين وفرويد وهؤلاء الشُّذاذ، ويحتج به في نشوة من الشعور بالنقص، حتى يقال (مثقف) ويستنكف من التمسكبالآثار والسنن، كما قال ابن القيم في غلاة المعتزلة الذين يردون أحاديث الطب النبوي بمخالفة الحس، ويقبلون مطلق كلام جالينوس وإن خالف الحس والتجربة!على حد قول القائل:
يُصِيخُ لكِسرى حينَ يسمعُ ذِكرَهُ…بصمَّاءَ عن ذكرِ النبيِّ صَدُوفِ
ويُعجِبُهُ أخبارُ كسرى ورَهطِهِ ……. وما هو في أعلاجِهمْ بشريفِ
فلم يبق إلا الوجه الرابع، وهو صحيح الآحاد الموافق للأصول، وهو مقبول بالإجماع الذي حكاه الماوردي والدبوسي وإمام الحرمين والسمعاني وغيرهم، وإن كان ثم وجه خامس فليُذكر حتى نتكلَّم عليه، فلم يبق لدعوى اللاقرآنيين موقع.!
على أن نفس الحكم بالموافقة والمخالفة أمر نسبي، يتفاوت بضرورة تفاوت العقول، فما تراه مخالفاً قد يراه غيرك موافقاً وبالعكس، وهذا واقع بين السلف الأول والأئمة فمن دونـهم، كما ردّت عائشةُ أحاديثَ رأت مخالفتها للأصول، ونازعها في نفس المخالفة غيرها من الصحابة، وقد جمع الزركشي في هذا المعنى كتابهالمعروفبــ(الإجابة).
فالحاكم في هذا المعنى إنما هو القواعد والأصول والنظر، وللاجتهاد في هذا الباب متّسع، وأنتم دعاة النسبية، أفتحكمون على السنة وأتباعها مطلقاً بالنسبية، وتأبون النسبية في نفس حُكمكم في مطلق الموافقة والمخالفة؟ وهذا لو تعقلون من أعظم الباطل والبهت، لأنه مصادرة على المطلوب.!؟
ومنعجب أمر هؤلاء اللاقرآنيين دعوى مخالفة الأصول هذه، فقد أجمعنا على أن من الأصول التي يُتحاكم إليها في تقويم الأخبار وتعليلها (ما جرى عليه عمل المسلمين) وقد انعقد الإجماع العملي واستقر من كافة أهل الإسلام، على أن السنة الفعلية من عموم سنته عليه الصلاة والسلام تشريعاً واتباعاً، فمن الأولى بمخالفة الأصول ومناقضتها.!؟
فإن قالوا: فأنتم تقولون: إن السنة أحوج إلى القران منها إليه، وأنـها قاضية عليه، فيقال لهم: هذا أحد القولين لأهل العلم، منهم مكحول والأوزاعي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم، وقد خالفهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وإسحاق وغيرهم، وأنكر قولهم هذا على إطلاقه، الإمامُ أحمد كما رواه عنه ولده عبد الله في (مسائله) والنظر يقتضي أنـهم إن قصدوا أنـها تُفسّره وتُبيّـنه، فصحيح وإلا فلا.
قال السيوطي والعلماء: (معنى احتياج القرآن إلى السنة، أنـها مُبيّنة له ومُفصّلة لـمُجملاته، لأن في القران كنوزاً تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيُبرزها، وذلك هو المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مُبيّناً للسنة ولا قاضياً عليها، لأنـها بَيّنة بنفسها، إذ لم تصل إلى حد القرآن في الإعجاز والإيجاز، لأنـها شرح له وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح).
ومن تعاجيبهم أنه إذا أورد عليهم مخالفوهم أن من تفاصيل الأحكام ما لا يُعلم إلا ببيان السنة كصفة الصلاة وكيفياتـها وغير ذلك، كاعوا فقالوا: هذا مقبول لأنه هكذا بلغنا ووصلنا بالتواتر.!
فيقال لهم: فيلزمكم ولا بد، الإقرار بوجوب الأخذ والعمل بما صح وثبت من السنن النبوية الفعلية على الجملة، لأن هذه الكيفيات غالبها من أفعاله المنقولة إلينا ممن شاهدها من الصحابة.
فإن قالوا: العبرة بتواتر نقلها لا بمجرد نقل الفعل، قيل لهم: أفتجعلون التواتر شرطاً في قبول الفعل النبوي الذي تلقته الأمة بالقبول، وتحتجون بأفهامكم للقران التي هي ظنون أحادية، وأي إزراء بالسنة أعظم من هذا.؟!
ويقال لهم: تواتر نقلها كيف ثبت لكم؟ فإن قالوا: بتلقي الأمة لها وعملها بـها جيلاً عن جيل في كافة الأعصار والأمصار، قيل لهم: وكذلك عامة السنن الفعلية المنقولة في أصول دواوين السنة الصحيحة، قد تلقتها الأمة بالقبول فعمل ببعضها عامتهم، وعمل ببعضها الاخر، بعضهم ممن يبلغ حد التواتر.
فإن قالوا: التواتر إنما هو في مجمل نقل هذه الكيفيات لا في تفاصيل آحادها، فيقال: يلزمكم قبول السنن الفعلية في الجملة ولا بد ولا مفر لكم منه، وهو خلاف مقالتكم، وما بقي من آحادها الذي لم يبلغ حد التواتر فهو محل نظر واجتهاد راجع لطريق ثبوته ووجه دلالته، وليس الكلام في قبول آحاد السنن، وإنما في قبولها من حيث الجملة.
ويُتصور أن التواتر من حيث هو نوعان: مجمل ومفصل، فالمفصل ما يختص بآحاد السنن والآثار، فيلزم تلقيها بالقبول والتسليم بالنظر إلى آحادها ولا إشكال في هذا، والمجمل ما يتعلق بجملة المنقول من السنن، فالتواتر المجمل يفيد وجوب قبول السنن في الجملة، سواء كانت قولية أم فعلية أم غير ذلك، وهذا حاصل بتلقي الأمة لها بالقبول، مما يدلك على شذوذ مقالة اللاقرآنيين وتـهافتها.
بخلاف تصرف العلماء في العمل بسنة معينة أو عدم العمل بـها، فإن هذا راجع إلى اختلاف أنظارهم واجتهادهم في نفس المروي منها، ثبوتاً ودلالة من حيث آحادها، لأنـهم قبلوها من حيث الجملة، ولم يُنقل عن إمام منهم ردُّها في الجملة كما يقوله اللآقرانيون.
فإن قال قائلهم: إن الله يقول: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) قيل: يلزم أن لا نتبع مقالتكم بالأولى لدخولكم في عموم مسمى الأولياء، على أن الله توعد في كتابه من اتبع غير سبيل المؤمنين، ولا نعلم مقالة اتبع فيها أصحابـها غير سبيل المؤمنين كمقالتكم هذه في السنة، فإن المؤمنين كلهم في عامة الأعصار وكافة الأمصار على خلافها، وفرق بين أولياء أمر القرآن باتباعهم كالسنن النبوية والصحابة وأهل العلم من بعدهم، وبين أولياء نـهانا القرآن عن اتباعهم، وهم أهل الأهواء المخالفون للسنن المجانبون لها.
فإن قالوا: نحن نقصد اتباع القرآن مباشرة دون وسائط مذاهب العلماء التي كما يزعم زاعمهم أنـها متأثرة بالظروف السياسية والتاريخية، فيُقال: خبّرونا عن هذا الأخذ المباشر من القران: أيكون بأصول وقواعد أم لا؟ فإن قالوا: من غير أصول وقواعد، فلا كلام معهم، لأن هذا من جنس اللعب.
وإن قالوا: بأصول وقواعد، قيل لهم: فهذه الأصول والقواعد، أهي أساليب مخترعة جديدة لكم، أم هي أساليب الأئمة المجتهدين.؟
فإن قالوا: هي أساليب مخترعة جديدة، قيل لهم: أظهروها لنا ما هي؟ فإنـهم لن يقدروا على ذلك، لأن أساليب الاجتهاد قد استوعبت بعد زمان ابن جرير الطبري، كما قاله العلامة ابن الـمُنيّر والسيوطي وغيرهما.
وإن قالوا: هي أساليب المجتهدين عينها، قيل لهم: فأنتم مقلدون في الأصول، فيلزمكم التقليد في فروعها ولا بد، إذ الفرع تابع لأصله.!
فعادت المسألة خلافية بينكم وبين الأئمة المجتهدين، ومن الأحمق قليل الدين والورع الذي يدع تقليد فروع من استخرج الأصول وابتكرها، وله أصحاب من فحول النُّظّار قد تـعاهدوا فروعه بالتنقيح والتصحيح والترجيح، ويتقلّد فروعَ من يُقلّد في الأصول غيره، وهل هذا إلا كمن يسأل إلسا وهي تطبخ، عن النسبية وآينشاين قاعد.!
وهذا على التنزل أن هؤلاء اللامذهبيين اللاقرآنيين يقتدرون على انتزاع المعاني من النصوص على وفق أصول الأئمة، فكيف وأمثلهم طريقة عاجزٌ عن استشراحها.!؟
والأمر كما قال الإمام المجتهد تقي الدين ابن دقيق العيد:
يقولون هذا عندنا غير جائز…..ومن أنتمُ حتى يكون لكم عِنْدُ
وقولهم إن مذاهب السلف تأثرت بوقائع سياسية وتاريخية، مع كونـه خلاف الرأي الأحزم، فهو شنشنة نعرفها من أخزم، فإن هذه المذاهب متلقاة عن السلف الذين شهدوا التنزيل، فمذهب مالك نقاوة مذاهب أهل الحجاز الذين تلقوا أصول العلم عن التابعين عن الصحابة بالحرمين، ومذهب أبي حنيفة هو خلاصة مذاهب التابعين بالعراق الذين تلقوا أصول العلم عن الصحابة بالبصرتين، ولم تتأثر بالسياسة بل أثَّرت فيها وعملت على إيجاد حلول شرعية لها، فهذه المقالة تنادي على اللاقرآنيين بفرط الجهالة بتاريخ الفقه ونشأة المذاهب.!
فإن قالوا: نـهى عمرُ بعضَ الصحابة عن التحديث، قيل: لم ينههم عن مطلق التحديث بالسنن، ولا يقول هذا عاقل يدري ما يخرج من رأسه، فإن حديث عمر رضي الله عنه يملأ دواوين السنة وهو القائل: (تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن) رواه ابن عبد البر وغيره.
وإنما معنى هذا عند العلماء، الإقلال من الحديث للتفقّه في القران وأصول السنن، وذم الإكثار من الغرائب والأفراد وما لا يعرفه العلماء من الحديث، فأما الحديث المعروف الصحيح فهو خير كله، كما قيل لسفيان الثوري:إلى متى تطلب الحديث؟ فقال:(وأي خير أنا فيه خير من الحديث حتى أصير إليه! إن الحديث خير علوم الدنيا).
ولهذا قال عمر لمن ابتعثهم من الصحابة إلى العراق: (إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا شريككم) فتأمل كيف أمرهم بإقلال الرواية لا تركها كما يقول اللآقرآنيون.
ولهذا قال ابن عبد البر: (إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن، لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه).
وهو معنى ذم السلف للإكثار من الرواية، كما قال الضحاك وغيره: (يأتي على الناس زمان يعلق فيه المصحف حتى يُعشّعش عليه العنكبوت لا يُنتفع بما فيه، ويكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث) يريد غرائب الروايات المخالفة للأصول من القران والسنن وما جرى عليه العمل.
كما قال ابن الجوزي:(ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يُباين المعقول أو يُخالف المنقول أو يُناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع) قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا عن دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة،وقد بسطنا تقرير هذا الأصل وبيانه في كتاب (علل الأصوليين).
ومن هنا قال ابن وهب: (لولا مالك والليث هلكت، كنت أظن أن كل ما روي من الحديث يُعمل به) هذا في آحاد الأخبار الغرائب والمفاريد والمناكير، وأما الحديث الصحيح قولياً كان أو فعلياًفلم نؤمر برده وتركه كما يقول اللآقرآنيون، وإنما أُمرنا أن نحمله على أحسن محامله، ونتأوله على أقوم وجوهه.
كما قال علي عليه السلام:(إذا حُدّثتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً، فظنوا به الذي هو أهياه وأهداه وأتقاه) رواه أحمد وغيره، وفي رواية ابن ماجه: (أهناه) بالنون، وعن ابن مسعود أيضا نحوه،وقد صححه الشيخ أحمد شاكر بمجموع طرقه، قال العلامة السندي: (أي: اعتقدوا فيه الذي هو أوفق به من غيره،وأهدى وأليق بكمال هداه وتقواه) وأهيأ أي: أحسن هيئآته ومعانيه وأصلحها.
فإن قال بعضهم: قال الله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) فالقرآن كاف عن السنة، قيل: قال القرطبي: (قال أهل التأويل: المراد الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأُمم) واللآقرآنيون خالفوا القران في هذه الآية فتأولوها على ترك السنن والاستغناء بالقران عنها، مع أن القران أمرنا برد تأويله إلى الرسول وأهل العلم بالتأويل، ولا قائل من أهل العلم بالتأويل بـهذا الذي قالوه في الآية.
فإن قالوا: الحديث ظن، والله يقول: (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) فيقال لهم: هذا مصداق جهلكم بالقران الذي أخبرنا أن الظن نوعان: باطل، وهو التخرّص الذي من جنس تخريصكم في السنة، وظن حق، أقامه القران مقام اليقين في العمل لا في الدلالة، كما قال تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنـهم مواقعوها) وقال: (الذين يظنون أنـهم ملاقوا ربـهم) وقال دريد بن الصمة:
فقلتُ لهم ظُنوا بألفيْ مُدَّجج … سَراتـهمُ في الفارسي الـمُزرَّدِ
وقد أجمع العلماء على أن الله تعبدنا بالظن الراجح، ولهذا كان غالب علم الفقه ظنون كما قال الشوكاني في (أصوله) وبه تعلم أن تعلقهم بظنية غير القران من الحديث ثبوتاً ودلالة، تخديش في الجلامد،وضرب في حديد بارد.
وقد أجمع العلماء كما نقله غير واحد من المفسرين كابن رجب والجلال السيوطي وغيرهما، على أن من لم يعرف العربية لم يحل له أن يتكلم في تفسير القران، وقد قال مجاهد: (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب) فكيف بمن يجحد شيئاً من البيان النبوي للقران، والله يقول: (لتُبيّن للناس ما نُزل إليهم).!
وقد جهَّل القاضي أبو الوليد بن رشد من زعم عدم الاحتياج إلى اللغة في تفسير القرآن وأفتى بتعزيره، فكيف بمن يجحد الاحتياج إلى السنن النبوية فعلية كانت أم قولية أم تقريرة أم خلقية وصفاتية، في تأويل القرآن.!؟
فإن قال بعضهم: قال الله: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) وقد زعم بعضهم أن الاية تعم كل حديث غير القران فيدخل الحديث النبوي، وهو من الجهل بالاصطلاح فإن الحديث هنا هو قصص الماضين وأخبارهم التي ساقها الله في كتابه، لأن بعض المشركين كالنضر بن الحارث كان يصد أهل مكة عن سماع الذكر بقصص أسفنديار ورستم فيستملحون حديثه.
ولهذا قال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص) وقال: (الله نزل أحسن الحديث) فالحديث في كتاب الله هو الكلام في القصص والأخبار، وأما إطلاق الحديث على الكلام النبوي فهو اصطلاح حادث، وقد تقرر أن اللغة حاكمة على الاصطلاح فلا يسوغ تفسير نصوص الشارع به، فإن القران لم يسمِ الكلام النبوي حديثاً، وإنما سماه الحكمة.
ولم يقل أحد من المفسرين بما فهموه منها أن المراد السنة، لأن هذه الايات مكية قبل أن توجد أحكام السنن المفصلة أصلاً، إذ العهد المكي كان يغلب على الآيات النازلة فيه، المواعظ والتوحيد والأخبار، فكذلك السنة التي هي بيان للذكر الحكيم، غلب عليها الكلام في ذلك، وأما الكلام في الأحكام التفصيلية فلم يعهد إلا في نصوص العهد المدني، قرآنا وسنةً.
على أن قولهم باتباع القران لا يخلو أن يكون داخلاً في عموم قوله تعالى: (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) فعلى فهمهم تكون الآية متناولة حديثهم في القرآن الذي هو فهمهم وتفسيرهم له، وبالتالي يشمله النهي عن الإيمان به في هذه الآية، لأنه من غير القران، فتأمل كيف وقع اللآقرآنيون في عين ما نـهوا عنه.!
ويقال لهم: أخبرونا عن السنة: هل تخالف آيات القران وحديثه أم لا؟ فإن قالوا: تخالفه، فقد كفروا بالنص والإجماع المتيقن، وإن قالوا: لا تخالفه، سقط قولهم وتعلقهم بالآية.
وإن قالوا: منها ما يخالفه وهو خبر الواحد، قيل لهم: كل أخبار الآحاد تخالفه أو بعضها؟ فإن قالوا: كلها فهو جهل وكذب مخالف للواقع، ومكابرة ظاهرة لا يتشاغل بـها، وإن قالوا: بعضها، عاد البحث السابق في خبر الواحد المخالف للأصول، فثبت أن السنة داخلة في عموم آيات الله، لأنـها تفسير هذه الآيات.
ويلزم على تأويلهم الفاسد أن يقع التضاد والتناقض في كتاب الله، فكيف ينهى عن حديث غير حديث القران، ويكون الحديث النبوي داخلاً في النهي، والقرآن قد أمر باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً في غير موضع منه، فهل أمر بما نـهى عنه؟ واللازم فاسد فالملزوم مثله.
وقال بعض غلاة اللاقرآنيين: قال الله: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) فيقال لهم: هل السنة من عند غير الله أم من الله؟ فإن قالوا: من عند الله، بطل تعلقهم بالآية، وإن قالوا: من عند غير الله، فقد أعظموا على الله ورسوله الفرية، وجهلوا مواقع القران القائل: (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم).
فإن قالوا: إن في السنة اختلافاً كثيراً، قيل لهم: ما المراد بالاختلاف؟ فإن قالوا: اختلاف الفهم، قيل لهم: فهذا واقع في نصوص القرآن، فبطل قولهم بيقين، وإن قالوا: التناقض والتضاد بين الأحاديث، قيل لهم: إن أردتم التضاد والتناقض في نفس الأمر فهو كذب وجهل، وقد أجمع العلماء على امتناعه.
وإن قصدتم التضاد والتناقض الظاهري، فهو واقع، وهو علم اختلاف الحديث الذي فتح الله به على الشافعي، وصنف فيه العلماء الكتب المعروفة في دفع ما ظاهره الإشكال والتناقض، مثل كتاب أبي جعفر الطحاوي وغيره.
وقد قال الشافعي أو غيره: إن بـهذا العلم يتفاضل العلماء، وقال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة: (من توهم التعارض بين حديثين صحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليأتِ إليَّ حتى أُؤلف له بينهما).!
وروى البيهقي وابن عساكر عن البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: قد ألفت هذه الكتب ولم آل منها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول:(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه،فتأمل كيف قرن السنة بالقرآن في نسبة العصمة من الاختلاف والخطأ.
وقال أيضاً: (أبى الله أن يتم إلا كتابه) فهذا في الكتاب المصنف من حديث أو فقه لا في نفس الحديث الصحيح المعصوم بعصمة قائله،وقد نظمه بعض العلماء مقالة الشافعي هذه، فقال:
كم من كتابٍ قد تصفّحتُهْ … وقلتُ في نفسيَ أصلحتُهْ
حتى إذا طالعتُهُ ثانياً……. وجدتُ تصحيفاً فصحَحّتُهْ
وقال بعض اللاقرآنيين: قال الله: (ولكن كونوا ربانيين) والمعنى: كونوا قرآنيين، كذا قاله يرد على من يسميهم بالقرآنيين لتركهم السنن والآثار، وهذا التفسير مع كونه لا قائل به فهو مخالف للغة، فإن الرباني لا يصدق على اللاقرآنيين من وجوه:
أحدهما:أنه مبالغة مثل لَـحياني في عظيم اللحية، ورباني في المبالغة بالانتساب للرب تعالى بالتوحيد والطاعة له ولأنبيائه والإقرار بما جاءت به رسله، ومن أنكر شيئاً من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير تأويل أو علم صحيح، فليس برباني، بل هو بوصف شيطاني أولى، وقد قال الإمام المجتهد إسحاق بن راهويه: (من رد حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير تأويل أو عذر فقد كفر) أخرجه ابن حزم في (أصوله).
الثاني: أنه قال في صدر الاية: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة) ولا ريب أن السنة كلها قولاً وفعلاً من الحكم والنبوة، وقد قال الشافعي رحمه الله: (كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما فهمه من القران).
وقال ابن السمعاني في (تفسيره): (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب) يعني: القرآن، (والحكم) يعني: الأحكام، والحكم: السّنة.
الثالث:أن الربانيين هم العلماء الحكماء المصلحون كما يفيده مجموع أقاويل السلف في معناه، وقال البغوي في (شرح السنة): (سُمي العلماء ربانيين، لأنـهم يربون العلم، أي: يقومون به، يقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربَّه، يرُبُّه فهو ربٌّ له).
والحكمة في كتاب الله هي السنة كما نص عليه الشافعي وغيره، فكيف يكون ربانياً من جحد شيئاً من صحيح السنة.؟!
ولا تجد عالماً مصلحاً ينتحل مقالة اللاقرآنيين هذه، فإن من أعظم صفات المصلح المجدد الرباني، نصرة السنة المحضة، كما قال السيوطي في صفته:
والشرطُ في ذلك أن تمضي المئه…وهو على حياته بين الفئه
يُشار بالعلم إلى مقامهِ………… وينصُرُ السنةَ في كلامهِ
وأن يكون جامعاً لكل فنْ……. أن يعُمَّ علمُهُ أهلَ الزمنْ
وقال بعضهم: قد أخبر الله أن القران بيان لكل شيء فقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) فلا حاجة بنا للسنة، فيقال: غبي على هذا القائل قوله تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) والاستثناء معيار العموم، كما قاله إمام الحرمين وأهل الأصول.
وهو ظاهر في أن البيان النبوي للقران المنزل يقع بكل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، يؤكده قوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) فتأمل كيف قرن الله في غير موضع من كتابه، إنزالَ القران بالبيان النبوي المطلق، ولم يستثنِ بياناً من أوجه بيان السنة.
وقوله: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين) من قصر النفي لا من نفي القصر كأنه قال: أنزلناه لتُبيّنه أنت لهم،وهو يقتضي سلب عموم البيان لا عموم سلبه، فيكون المراد أن البيان كما يقع بالسنة فهو يقع بغيرها من الأصول، لكنه بالسنة أولى وأكمل، ومن هنا كان بيان السنة للقرآن مقدماً على غيره، فيخرج من عموم البيان ما لا يرجع إلى أصل من الأصول كقول اللاقرآنيين في القرآن ونحوه من مقالات أهل الأهواء.
وقد قال الحافظ ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل): (إن الله عزوجل ابتعث محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء، وجعله موضع الإبانة عنهفقال (وأنزلنا إليك الذكرَ لتُبيِّن للناس ما نزل إليهم) وقال عز وجل (وما أنزلنا عليك الكتابَ إلا لتُبيِّن لهم الذي اختلفوا فيه) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين عن الله عزوجل أمره، وعن كتابه معاني ما خوطب به الناس، وما أراد الله عزوجل به وعني فيه، وما شرع من معاني دينه وأحكامه وفرائضه وموجباته وآدابه ومندوبه وسننه التي سنها، وأحكامه التي حكم بـها، وآثاره التي بثها، فلبث صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة ثلاثاً وعشرين سنة، يقيم للناس معالم الدين، يفرض الفرائض، ويسن السنن، ويمضي الأحكام ويحرم الحرام ويحل الحلال، ويقيم الناس على منهاج الحق بالقول والفعل).
ويقال للآقرآنيين: خبرونا عن مقالتكم في السنة هذه: هل تقدمكم إليها قرآن أو أثر من حديث أو قول صاحب أو تابعي أو إمام؟ فإن قالوا: بلى، قيل لهم: بينوه لنا وإلا فأنتم كالـمُحْتَاضِ على عَرْضِ السَّراب.!
وإن قالوا: لا، قيل لهم: فقد شاققتم الرسول وخالفتم سبيل المؤمنين، وقد قال الإمام أحمد للميموني: (إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام).
فإن قالوا: إن قولنا في السنة اصطلاح لنا كمن قال من العلماء برد الاحتجاج بالمرسل،ومن أنكر العزيز كابن حبان ونحو ذلك، طولبوا بإقامة الدليل عليه، وليس هو إلا ما تقدم لهم من الشبهات التي مر انتقاضها عليهم، وينتقض عليهم بالفرق بين رد المرسل وإنكار العزيز، من جهة أن من أنكرهما فهو يثبت أصلهما، وأنتم نفيتم الأصل أصلاً، فبطل القياس.
وإن قالوا: نحن نثبت أصل السنة وهو ما تواتر منها، قيل لهم: يلزم بطلان تمثيلكم برد المرسل وإنكار العزيز ونحو هذا من الاصطلاح، لأن هذا فرع خبر الآحاد، فمن أنكره أثبت أصل الاحتجاج بالآحاد، وخلافه إنما هو في ثبوت بعض فروعه اصطلاحاً، وأما أنتم فنفيتم السنن الفعلية الآحادية اصطلاحاً، فلا ينفعكم إثبات أصل المتواتر منها حتى تثبتوا الأصل الذي هو الآحاد وإلا فهو خروج عن محل البحث، ثم اضطربتم وتحكمتم في السنة بالهوى، ولا ضابط يحكم قولكم حتى يقال لا مُشاحة في الاصطلاح.!
والحاصل: وقف حمار اللاقرآنيين عند العقبة، فلا للقرآن انتصروا، ولا بـهديه تبصّروا، ولا له انتصروا، ولا للسنة كسروا.!
وبعد: فإن من أعظم الغلط تسمية هؤلاء بالقرآنيين، فالفرق بينهم وبين أهل القران أن هؤلاء تحكّموا في قبول السنن بأهوائهم، وأهل القران تحكّموا في دلالة السنن بالأصول والقواعد، بعد التسليم والقبول لها مجملاً كما أمر القران، فمن أقبح الخطأ تلقيب اللاقرآنيين بما ظاهره اتباع القران والتبجح به، وهم يناقضون صريح أمره بقبول السنة والعمل بـها.!
وإنما هم اللآقرآنيون بامتياز، إذ القران يأمر باتباع السنة مطلقاً، وهؤلاء خالفوا صريح القران وناقضوه بالتمويه ودعاوى التقييد في مطلق وجوب الأمر القرآني باتباعها، فتارة يقولون: لا يلزم اتباع السنة، وتارة يقولون: السنة ليست وحياً، وأخرى: ليست تشريعاً، وتارة: لا تجب وجوباً اصطلاحياً، وتارة: سنته الفعلية ليست تشريعاً..!
فقد حاصوا حيصة حُمُر الوحش، وتفرقوا أيدي سبأ، وذهبوا تحت كل كوكب، وركبوا كل صعب وصيهب، وتحكّموا في القران بالظن والتخريص، والقران يقول: (قُتل الخراصون) والحاكم عندهم ليس إلا الهوى، وأصلهم الذي يصدرون عنه ليس إلا الميكافيلية المحضة.
وشأنـهم كما قال أمير المؤمنين عمر في أهل الأهواء: (أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ويتعلموها فقالوا بالرأي والهوى) وقال رضوان الله عليه: (يُردُّ الناسُ من الجهالات إلى السنة) رواهما البيهقي.
والواقع أن ظهور هذه النابتة المسماة ب اللاقرآنيين من أشراط الساعة، لما صح أن من أشراطها ذهاب الدين ودَروس معالمه، وقد أخرج الدارمي في (مسنده) عن عبد الله بن الديلمي قال: (بلغني أن أول الدين تركاً، السنة).!
وأخرج أبو القاسم اللالُكائي عن عمر وعلي رضي الله عنهما قالا: (سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) فتأمل الإطلاق والملازمة في كلام من شهد التنزيل وعلم التأويل، نقيض مقالة اللاقرآنيين.
وههنا نكتة راجعة إلى تنازع المفسرين في مسألة: هل فسّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القران كله أو بعضه؟ ولهم فيه قولان مشهوران، لكن النكتة عندي أن الخلاف لفظي، لأن من يقول: لم يُفسّره كله، فقد عنى أنه لم يُفسّره كله بقوله، ومن قال إنه فسره كله، قصد به أن فعله بيان وتفسير للقران، فإذا اجتمع القدر الذي فسّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القران بقوله، مع ما فسّره منه بفعله وسنته التقريرية وخُلُقه وصفته، فإنه يكون قد فسّر القران كله بطريق الإجمال، فتأمل.
وهذا معنى قول الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما إنه عليه الصلاة والسلام إنما فسّر منه القدر الذي لا يُعلم إلا ببيانه، لما قاله ابن عباس: (التفسير على أربعة أوجه: وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره) أخرجه ابن جرير وغيره.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
كتبه
أبو جعفر بلال فيصل البحر
بالقاهرة/ ذو القعدة/ 1439