حصريا

العَالَمَانيَّة-أ.بن جدو بلخير

4 163

الافتتاحية

العَالَمَانيَّة

داءٌ وَبيل

لم ينل نبيٌّ شرفَ النداء بالعبودية لله والنُّبوّة ما ناله نبيُّ الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، والنُّبُوَّةُ كما يقول أهل الشأن : اشتقاقٌ من النَّبْوَة وهي الارتفاع إن قرأتها باللّين،وإن همزتها كانت من النَّبأ، والمعنيان متلازمان فلأجل أنه نُبِّئ ارتفع ونبا .

ورسالة نبينا صلى الله عليه وآله و سلم إلى الناس كافة خصيصةٌ انفرد بها دون إخوانه من الأنبياء، لتكون رسالته هي المُهيمنة والخاتمة والناسخة، فلا دينَ إلا دينُ الإسلام .

و أنت ترى إجماع الصحابة على تسمية الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو إعلانٌ منهم أن الإسلام دينٌ ودولة، ووجهُ ذلك : أن النبيَّ كان في وسط الناس : نبيًّا وإمامًا، فلما مات ارتفعت النبوة، ومع ذلك قالوا عن الصدّيق: خليفة رسول الله، ومدلول هذا أنه قائمٌ بما قام به النبي صلى الله عليه وسلم في الناس من إمامةٍ عامّةٍ في حراسة الدين، وسياسةُ الدنيا به .

وجاء من بعد الخلفاء الراشدين كثيرٌ من الخلفاء الفَسَقَة، ولكن حالهم لم يختلف – في الجملة – في سياستهم لشؤون الدولة بالدِّين، وانتشر الإسلام كما لم ينتشر دين غيره، فأنت واجدٌ ذكره على هذه الأرض البسيطة في كل شبرٍ منها، رغم تشويه صفحته ليلا ونهارا، وأهله ضَعَفَةٌ مُمَزَّقون، ليدُلَّك هذا أن قوتَه كامنةٌ فيه، فجاؤوا بعَالَمَانية ابتدعوها، واستعلنوها من بعد أن مكثوا دهرًا يُضمرونها تحت مَطاوي المُسامحة وتعدّد الثقافات، وإنّ مَثَلهم كمَثَلِ العُرِّ يكمُن أحينا ثم ينتشر، فتحيّنوا إصابة المسلمين بشيءٍ من الرّقة في دينهم، والضَّعف في إيمانهم، والتمزّق في صفوفهم، وهذا ما يجب أن يستفزّ أهل العلم، ويستنفر أهل الدعوة لمحاربة هذه الظاهرة، والحال كما وصف العربيّ الأول:

وحولي من هذا الأنام عصابة  **  تودّدها يخفى، وأضغانها  تبدو

فاستهمَّ الكفرة – بمعونةٍ من أتباعهم – على حربه، وتقليص انتشاره، وتقزيم حكمه، ومحو آثاره، على الصُّعُد كافّة، كما قال تعالى ( يقاتلونكم كافة)، فضربوا اقتصاد الإسلام، وألصقوه بالمعاملات الربوية، وربطوا نظامه بأنظمة المصارف العالمية،وشوّهوا التاريخ فحصروا فساده في تناحر المسلمين، واجتهدوا في تكذيب الأخبار ونفي الشخصيات المؤثرة فيه سلبًا وإيجابًا، والتفتوا إلى الأدب، وراموا الوقيعة  بين إرث الأمة وحاضرها، فنبتت نابتةٌ من سوء انتبذت كل أدب قديم نبذًا، كان له آثار وخيمة للأسف .

و يكفي أن العَالَمَانيَّة دخلت بادئ الأمر من أهل الأدب، فكان أربابها من أهل القومية، ولمّا علموا – بخُبثٍ منهم- أن النداء الصريح يُعوّق من غايتهم، تنادَوا بالقومية والتمصّر، وذهبوا يستهزؤون بالقرآن، وبلغة العرب حتى قال كبيرهم : إنّ نسخةً من ألفية بن مالك تعدل خمسين نسخةٍ من القرآن الكريم ! هكذا والله بلا حجازٍ من كنايةٍ أو توريةٍ، وأرسل إلينا الغرب أذنابه من أبناء جلدتنا ممن اعتبدهم فصيّرهم عمالةً مجّانيةً، تعاطفوا مع المستشرقين، وألبسوهم أردية الفخامة والذكاء حتى أعجِب الصادقون السذّج بهم، وللقوم صبرٌ على مآربهم وجَلَدٌ لا نتبصّره فتراهم يأخذون من الشريعة ما يجدون به مُدَّخلًا لتحقيق مآربهم، فيتكلمون بلسان المُتفقهة إمعانًا في التدليس فتسمع في كلامهم (الضرورة تبيح المحظور)و(الفتوى تختلف باختلاف الأحوال) و(الأمصار) و(درءُ المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة)  وإلى أشباه ذلك من  القواعد التي تحتاج إلى فقهٍ في التنزيل .

وفي السياسة أنشأوا لنا مصطلح “إسلامي” وهو مصطلح مشؤوم،  لينفذوا به إلى المجتمع الإسلامي، فأحدثوا فيه شرخًا هائلا، كانت نتيجته أن الإسلاميين قومٌ غير المسلمين، وكأنّ المناداة بتطبيق شريعة الإسلام هو نداءٌ لفئة فقط تدفعهم دافعةٌ من سياسة أو مصلحة أو ما لا أدري ..!

وبعضٌ من أهل العلم فيهم غفلةُ الصالحين لا يُدركون ما يدور في هذا العالم، ولا يعلمون ما يحيط بالمسلمين إلا لِمامَا، والعالم الحقُّ من ربَأ بنفسه أن يكون غُفْلا عمّا يُكاد للإسلام، عليمًا بدسائس أهل الكفر وأعوانهم من المنتسبين للإسلام

واعلم – علمتَ الخيرَ – أنَّ العَالَمَانيَّة ليست اجتهادا سياسيا كما يظن البعض، إنها داء وبيل، دخل إلى كل مفاصل الجسد الإسلامي فأنهكه، حتى الحركات الإسلامية جرّتهم العجلة إلى الوقوع في شراك العَالَمَانيَّة فلم يسلموا منها،وربما اتخذتهم أدوات لها ..

إن العَالَمَانيين قومٌ اتخذوا الهوى إلهًا، فما من شيء يُعيقهم عمّا تهواه أنفسهم إلا ونبذوه وحاربوه،  لأن النفس في فلسفتهم خُلقت في قفصٍ، فهي تنزِع إلى التملُّص من كل شيء يزيد من حبسها، حُرموا أن يلتذّوا بأوامر الإسلام  وتكاليفه، فنظروا إليها مُعوِّقات عن حريتهم لا روافع ترفعهم عن البهيمية، وأسبابٍ تسموا بهم إلى بارئهم،وآثروا الخلود إلى الأرض، يريدون عرضًا من الدنيا زائلا، والإسلام يريد لهم نعيمًا سرمديًا .

و يا لله ما أحلى تعبير القرآن إذ يُعبّر بكل رحمة وإرادةٍ للخير لهذا الناس، فيقول الحقّ تبارك وتعالى (يريد الله ليُبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)  (يريد الله أن يُخفّف عنكم ) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (والله يريد أن يتوب عليكم) فتأمّل فعل المضارع : “يريد” كيف يوحي بالرّحمة وإرادةِ الخير بديمةٍ وتعهّد .

فلما عَدِموا هذا الفقه، واستثقلوا تكاليفه، عَمَدوا إلى ما يُحرِّرهم  منه، ولو امتطوا سبل الشرّ، فكانوا ولكن في قيودٍ من الشهوات يرسُفون، يحاربون المصلحين وهم مَغيظون، و ودّوا لو أبادوا العاملين في حقل الإسلام  (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)

وكلما تأففوا من تخلفهم، ونظروا إلى تطوّر الغرب، رجعوا على الإسلام فلمزوه، وجعلوه المُتسبِّب في نكبتهم، وألصقوا نقصهم وجهلهم به، كالثور يُضرَب لمّا عافتِ البقرُ !

و بعدُ :

فليس لهذه الافتتاحية أن تقُصَّ القول في العَالَمَانيَّة فتتسع وتستطيل في الشرح  حتى تمتدّ إلى أطراف الموضوع، ولكن حسبها أن تغرس أمارات على الطريق تلوح للناظرين، فتضطرّهم إلى بحث الموضوع في مظانّه، فإن العَالَمَانيَّة طاعون العصر، لا أقول من  الكفرة، ولكن من بعض أهل الإسلام ، ولكن لا تحسّونهم . (وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) .

وكأني بالإسلام قد خُلق في كَبدٍ، يتأذَّى من بعض أهله أكثر من عدوّه، وحسبه أن الخاتمة له، والسؤدد مصيره الأزلي، وحسبك أيها  الداعية إليه : أنك محور الكون، وقائد المعركة بين الإسلام وأباطيل الكفر، وغُنمك أنْ :

لكَ المِرباعُ منها والصَّفايا   **  وحكمُك والنَّشيطةُ والفضولُ  . . .     والسلام

و كتب : المُتحنِّنُ إليهم

بن جدو بلخير

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

  1. أبو القاسم الفلسطي يقول

    مقالة حلوة لطيفة ،أعز الله من زبرها …موضوع كبير كالعالمانية أن يختزل في مقالة مُتقالّة ليس بشيء هيّن ،وأحسب الأستاذ بلخير وفّق في إطلالة عليه من فوق بأسلوب محبوب، وقلم نجيب..نفع الله بكم وجعل جهودكم جهادا في سبيله بالكلمة ،خالصا لوجهه ،وجعل المجلة منارة لبث الوعي ،وموئلا لسديد الرأي..

    1. بن جدو بلخير يقول

      أكرمك مولانا و رضي عنك لطالما استفدت منك و نهلت من معينك جزاك الله عني كل خير

  2. عبد الله قدوس يقول

    هذه إحدى المعلقات في العالمنية.. حلَّقت ..بوركت

    1. بن جدو بلخير يقول

      شكرا لك استاذا جزاك الله عني كل خير انت من المشايخ الذين غُمط حقهم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.