حصريا

العلم بين الأساتذة والطلاب – شيخ الأزهر محمد الخضر الحسين

0 462

[cl-popup btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center”]ولد محمد الخضر حسين في مدينة نفطة بتونس في 26 رجب سنة 1293هـ/ 16 أغسطس 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمري، من قرية طولقة (ببسكرة)، وهي واحة من واحات الجنوب الجزائري، وأصل أمه من وادي سوف بالجزائر أيضًا وأبوها هو الشيخ مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ محمد المكي بن عزوز.
واسم الشيخ هو محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فلما جاء إلى الشرق حذف “بن” من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضًا عن الأخضر، ونشأ الشيخ في أسرة علم وأدب من جهتي الأب والأم، وكانت بلدة نفطة التي ولد فيها موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهي واحة بها زرع وفيها فلاحون.
ونشأ الشيخ في هذه البيئة طالبًا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك.
ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس في جامع الزيتونة وهناك درس على خاله محمد المكي بن عزوز الذي كان له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على يد مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، درس على يديه صحيح البخاري، وقد تخرج الشيخ في الزيتونة سنة 1316هـ/1898م، وألقى دروسًا في الجامع في فنون مختلفة متطوعًا ، وبقي كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة[/cl-popup]

في هذه الفترة بين عام دراسي أوشك أن ينقضي، وبين عام جديد يستقبله المدرسون والطلبة بعد أشهر الاستجمام، رأيت أن أتحدث إلى إخواني مدرسي المعاهد وأبنائهم الطلبة بما ينبغي للفريقين أن يطيلوا التأمل فيه، عندما يفرغون من فترة الاستجمام؛ استعداداً لاستئناف عهد جديد في الحياة الدراسية.
إن أجمل ما فهمه المسلمون من معاني (العلم) قول أبي حامد الغزالي فيه: إنه عبادة القلب، وصلاة السر، وقربة الباطن إلى الله، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر من الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته من خبائث الأخلاق.
وهذا الفهم الجميل لمعنى العلم في الإسلام، إذا كان ينبغي لمدرسي المعاهد الأزهرية وطلبتها أن يجعلوه دستوراً لهم في حياتهم الدراسية في جميع المعاهد، فإن أولى ما ينبغي لهم أن يتخذوه دستوراً في هذا العهد الذي أخذ يتجدد فيه نظر الأمة إلى جميع أوضاعها؛ استعداداً لاستئناف حياة سعيدة مباركة النتائج، ويانعة الثمرات- إن شاء الله-.
من المأثور عن رسول الرحمة – صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول لأصحابه -وهم الطبقة الأولى من طلبة العلم في تاريخ الإسلام-: “إنما أنا لكم مثل الوالد لولده”.
وإن المدرس في المعاهد الإسلامية ينبغي له أن يستقبل سنته الدراسية المقبلة بهذه الروح العالية، وبهذا الأدب الإسلامي الرحيم، فيكون لطلبته مثل الوالد مع الولد.
روى الذين دونوا ترجمة الإمام الفاتح أسد بن الفرات: أنه لما كان يأخذ العلم عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام أبي حنيفة، كان الإمام محمد بن الحسن إذا رأى تلميذه أسد بن الفرات غلب عليه النوم، وهو يسهر في تلقي العلم عنه، نضح على وجهه رشاشاً من الماء؛ ليجدد له نشاطه؛ شفقة عليه، ورغبة منه في أن ينهض إلى مستوى الإمامة في العلم. ولولا أن محمد ابن الحسن تأدب بأدب الإسلام، وعمل بالمبدأ المحمدي في أن يكون لتلميذه كما يكون الوالد لولده، لانتهز فرصة غلبة النوم على تلميذه، وأرجأ الدرس إلى الليلة الثانية، هذا ما نعلمه من مقام الإمام محمد بن الحسن في الدولة، وكئرة أعماله العلمية، لكنه لما كان يعلم أن من أدب الإسلام أن يكون التلميذ بمنزلة الولد من الوالد، التزم مع أسد بن الفرات هذا الأدب الرحيم، وكان من نتيجته: نبوغ أسد بن الفرات، وقيامه للملة الإسلامية بما لا يقوم بمثله إلا أفذاذ النوابغ من صفوة البشر.
وهذا الشيخ ابن التلمساني، أحد كبار علماء شمال أفريقية سأله السلطان عن مسألة، فقال: إن تلميذي فلاناً يحسن الجواب عنها، فوجه السلطان السؤال إلى تلميذ ابن التلمساني، فأحسن الجواب، فأجازه، وأحسن منزلته، وكان ابنالتلمساني أعلم من تلميذه فيما سأله عنه السلطان، لكنه لاعتباره تلميذه بمنزلة ولده، أراد أن ينوه به في حضرة السلطان كما لو كان ولده حقاً.
والطلبة في دستور الإسلام عرفوا كيف يقابلون هذا العطف الأبوي من أساتذتهم بما يكافئه من حرمة ومحبة وإجلال.
ومن أقدم الأمثلة على ذلك: ما رواه الشعبي: أن زيد بن ثابت صلّى على جنازة، ثم قربت إليه بغلته ليركبها، فبادر إليه عبد الله بن عباس، فأخذ بزمام البغلة ليساعده على الركوب، فقال له زيد: خل عنه يا ابنَ عم رسول الله، فأجابه ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء.
وقد حافظ ذرية ابن عباس على هذا الأدب من التلاميذ نحو أساتذتهم، بعد أن صار بنو العباس ملوك الدنيا، فقد نقل برهان الإسلام الزرنوجي، في كتاب “تعليم المتعلم”، وهذا الكتاب ترجمه (رولاند) إلى اللغة اللاتينية، وطبعه في مدينة “أوتراخت” بألمانيا قبل نحو مئتين وخمسين سنة: أن أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث ابنه إلى الأصمعي؛ ليعلمه العلم والأدب، فرآه يوماً يتوضأ، وابن الخليفة يصب الماء على رجله، فعتب الخليفة على الأصمعي؛ لأنه لم يأمره بأن يصب الماء بإحدى يديه، ويغسل رجل أستاذه باليد الأخرى، ورأى أن تقصير ابنه في ذلك تقصير في أدب التلميذ مع أستاذه.
وروى الزرنوجي في هذا الكتاب أيضاً عن شيخه برهان الدين، صاحب “الهداقي”: أن أحد كبار أئمة “بخارى” وهو في حلقة درسه في المسجد رأى ابن أستاذه يمر أمام باب المسجد، فقام له؛ تعظيماً لحق أستاذه.
وقد علمنا من سيرة ابن خلدون: أنه لما رزئ بوفاة كبار شيوخه، “وكان منهم: قاضي القضاة محمد بن عبد السلام، والرئيس أبو محمدالحضرمي،والعلامة محمد بن إبراهيم الأبلي، ضاق به وطنه، فترك مقامه الوجيه الذي وصل إليه في قصر الإمارة، ورحل عن تونس إلى الجزائر والمغرب الأقصى؛ لأن مقام أساتذته كان في نفسه فوق كل مقام.
وهذه المحبة الصحيحة التي يكنها التلميذ لأستاذه هي التي حملت العالم أحمد بن القاضي على أن يقول في شيخه المنجوري: “وصارت الدنيا تصغر بين عيني، كلما ذكرت أكل التراب للسانه، والدود لبنانه”.
ومن ذلك قول ابن عرفة:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة … وإيضاح إشكال بأحسن صورة
الأبيات، فيجيبه تلميذه الأُبِّي بقوله:
يميناً بمن أولاك في العلم رتبة … وزان بك الدنيا بأحسن زينةِ
لمجلسك الأعلى كفيل بكلها … على حينما عنه المجالس ولَّتِ
ووقت خروج جنازة أستاذنا الشيخ عمر بن الشيخ من منزله ليصلَّى عليها في جامع الزيتونة، ذكرتُ خروجه منه لدرس كتاب “المواقف”، والشيوخ ينتظرونه بموضع الدرس، وذكرت قول أحد الأساتذة في قصيدة ألقاها عند ختم الكتاب:
إذا عمر بن الشيخ وافى لدرسه … تعال التقط دراً بملء جفانِ
ففاضت عيناي بالدموع.
إن هذا الأدب الإسلامي الذي جعل من الطلبة أبناء للأساتذة كفلذات كبادهم، وجعل من الأساتذة آباء لتلاميذهم، يعطفون عليهم أكثر من عطف الآباء على أبنائهم، هو الأدب اللائق بنا أن نرجع إليه لنجدد في تاريخنا عهداً
سعيداً، فننعم به، ونسعد بنعمته، والطلبة الذين يكتسبون من دراستهم مثل هذا الأدب ينالون به من السعادة أضعاف ما ينالون به من دراسة العلم مهما تقدموا فيه.

__________
(1) مجلة “الأزهر” الجزء العاشر -المجلد الرابع والعشرون- غرة ذي القعدة – 1372 هـ جويليه تموز 1953 م.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.