الطاغوت ومنظومة الفساد د.ليلى محمد بلخير – الجزائر
إن الحديث عن الطاغوت في القرآن يأخذ منعرجا حاسما، في قدرته على ملامسة الراهن الاجتماعي، في أبعاد وتجليات مؤثرة، تحمل من الماضي البائد لتعود إلى الحاضر القريب.
و لو عدنا إلى حياة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لوجدناها حافلة بالمشاهد والألوان من المحن و الابتلاءات والتي استمدت أطرها وفعالياتها المرجعية من قصص الأولين، وخاصة أولي العزم من الرسل عليهم السلام والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن لماذا يظهر الأنبياء الأصفياء، وهم رجال الله في موقع يتكرر فيه استقبال الأذى وتحمل الأوجاع المادية والمعنوية؟ لماذا يتم عرضهم في المركز الأضعف ماديا، والطواغيت تزداد قوة وبطشا كلما تقدم بنا الزمن؟ قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف ﴿٣٥﴾ في الآية دلالة الصبر في قصص أولي العزم، ليس ركون المستضعفين للفساد، ورضاهم بالانحراف، الطاغوت صورة مجازية وليس اسما واضح المعالم والصفات، له علاقة بالإكراهات والعراقيل، المادية والمعنوية، لا يلزم قالبا واحدا، ولا حدود له واضحة، قد يكون في البيت، كما يكون في المسجد، أو داخل كتاب، ليس بالسهولة ضبطه وفهم حركاته والخروج على سيطرته، أو بناء حدود جديدة بعيدة عن بطشه وطغيانه، موجود في كل مكان، في وسائل الإعلام وهي تمجد الأصنام والرموز الكاذبة المخادعة وتختل المشاهد بالتستر على الخونة و المرتزقة والتفنن في التضليل والتعتيم وقلب المفاهيم وزعزعة الثقة في القيم والمبادئ الأصيلة، كلما خفنا منه كلما ازداد عتوا وبطشا، وكلما ملكنا أنفسنا من سطوته. انكمش وزال خطره.
حتى داخل البيت وبين عناصر الأسرة، كثرت المظالم والشرور. وانكمش دور الأب وحضوره الروحي والتربوي، وانشغل بأدوار أخرى تافهة ومضيعة، وأضحى الأمن والآمان غائبا، والعنف والقهر( البعبع ) الذي يقض مهجع الصغار. الأمر الذي سمح بظهور طاغوت جديد مؤنث، وفق مواصفات عالمية. يتم الترويج فيها لمركزية الأنثى في كل مراحل حياتها، ونقض كل شكل من أشكال الأبوية، تتزوج بحثالة وبقرار المحكمة، وتخلع زوجها بقرار المحكمة، وبمباركة المجتمع أو سكوته، الأنثى في واقعنا الجديد، صنم جديد والكل يمجد هذا الصنم ويهرع لمرضاته، أنها منظومة الأنثى الجديدة، تصور البيت سجنا والأطفال قيدا والرجل ظلا باهتا يجدر دحره وكسره. حتى تعيش وتنتعش و تتربع على مركز الحياة، إنها الطاغوت الممجد الذي يمارس القهر على من حوليه ولا يهم الخسائر والضحايا من الأكباد الطرية البريئة، بل هي ظاهرة فساد، وكل يوم في تفاقم وازدياد ليس في الجزائر فقط بل في كل الديار العربية والعالم الإسلامي، أصبح الطلاق مزية والخلع موضة وأحدث صيحة، كالأزياء ومواد التجميل، تعصفها رياح التغيير والتبديل، يجب أن نعرف جيدا ماهو دورنا؟ حتى لا نشارك في تفخيم الطواغيت بخنوعنا، لا في السياسة و لا في الحياة الأسرية والاجتماعية، ولا نسكت ونحابي أي صنم أو طاغوت، لأننا في الحقيقة من صنعناه و أكسبنا فساده، الشرعية والواقعية. يجب أن نتوقف لحظة لنفهم ما يدور حولنا. و حتى لا نغبن بجيل منقطع لا يعرف أباه، جيل ممزق ضائع منبت ، لا يعرف حاضرا و لا مستقبلا لا سمح الله . ولكن من وراء هذا الطاغوت الجديد ؟ ومن هم بطانته القائمين على فخامته وتفخيمه ؟ .
كتبت حروف هذه المقالة ، وذاكرتي مشبعة بما قرأت لشهيد الكلمة الصادقة سيد قطب رحمه الله، وغيره ممن ماتوا فيسبيل حرية الشعوب، وبالعودة إلي السيد، فقد أبدع في توصيف أنماط الطاغوت من القرآن الكريم، وبسط تجلياته وتمظهراته في الراهن المعيش ، مقاوما بذلك طبائع الاستبداد وعنجهية السيطرة بالكلمة، وبناء الوعي الحقيقي المنتج للحركة والفعل، وكلما تزداد قوافل الشهداء، نتذكر شراسة الطواغيت وجبنهم في الوقت نفسه .
لا شك أن الطاغوت علامة فساد مهما كان وسمه أو رسمه، ولونا قاتما من الظلم والقهر، ظل ثابتا برغم التحولات وصروف الزمن يقول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ النساء(60).
ترسم الآية الكريمة ظلالا لشخصيات أصبحت نماذج كونية بمواصفات ثابتة، موجودة في كل زمان ومكان، سواء كانوا من الزعماء وكبار الساسة، أو حتى من الوجهاء وعباد السلطة، أو نجوم الإعلام والفن والرياضة، طواغيت المال والأعمال والإعلام والغناء وكرة القدم، في أغلفة المجلات والتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، معظمهم يعيشون المفارقة والازدواجية، منقسمين بين زعم باطل وادعاء كذوب بأن لهم مبادئ وأفكار وقيم ومشاريع هادفة لنشر الخير، وبين خنوعهم للفساد في شأنهم كله، وذلك باجترائهم على ارتكاب المظالم والشرور، وبيع أنفسهم للفحش والرعونة في كل ركن وساحة، والكل في سباق ولا يحسن التوقف لحظة واحدة، ليفهم دوره في المهزلة، يفرح بجنون، ويجن من الفرح، وكل مرة تقدم أرواح وتسفك دماء، ليعيش وينتعش طاغوت جديد.
من يصنع الطاغوت؟ يصنع كما يصنع الصنم، ويوضع في المعبد لتقديم النذور والقرابين، يقدس من قبل صانعه، وهو أعلم الناس بتفاهته وهوانه، وهي صناعة قديمة متجددة لقوله تعالى:﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف (127)، ويحمل إلينا السياق إشعارا على الدور الذي لعبته حاشية فرعون ، حيث يؤدون دورا كبير في تأجيج الصراع ، وتشكيل عنجهية أكبر طاغوت في التاريخ ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي﴾ القصص ﴿٣٨﴾، حيث نصب نفسه ربا على الأرباب، وحاليا أصبح للكرة أربابا، وللأدب أصناما وأزلاما، وللغناء والرقص وأفلام الكرتون والألعاب الالكترونية نصبا مقدسة و طواغيت يتحكمون في الذوق ويسيطرون على العقول، ويدوسون على الرقاب بلا هوادة، ولا يموت طاغوت حتى يخلفه من هو أشد وأعتى، في الإعلام والتجارة والأدب وكل مجال من مجالات الحياة
تتوجه استراتجيات الخطاب العالمي الجديد، نحو تعزيز مايسمى الرأسمالية الناعمة ،أي تمكين المرأة و جعلها مهيمنة على مراكز القوة والسيطرة وصنع القرارفي الإدارة والسياسة والأدب والفكروالاقتصاد، طبعا تتمركز حول نفسها ، عاملة مستنفرة ، تهدر أنوثتها في الانتاج ، وفي الاعلانات و الترويج للسلع ،ثم تصرف ما جنته في التسوق . إنه منطق الاستهلاك بلا معنى أو هدف سوى اشباع نهم وهمي في الاستقلال والحرية والاستمتاع باللحظة ، و من أجل التفاخر بالانجاز الفردي ،و ترميم الأنوثة المهدرة .
وأصبح طابع النعومة مثل السيل الكاسر ياخذ كل شئ ، ولا يترك شيئا ، الادارة الناعمة ، والجامعة الناعمة ، والاقتصاد الناعم والكتابة الناعمة ،والزمن الناعم والمكان الناعم ،والعالم كله عائم في حالة من السيولة والتشظي والشتات والتبعثر ، تحضرأحاديث شفط الدهون واللياقة وبهارج الأزياء ومواد الزينة جنبا إلى جنب مع قضايا الفكر والثقافة والسياسة وفي صلب البرامج الدينية .
ويفضح كتاب نقض مركزية المركزمن تأليف مجموعة من الباحثات ، أهداف السياسة النسوية في إطار كوني شامل ،حوار عابر للقارات وهادم للخصوصيات الأخلاقية والقيم والدين ، وكل أشكال النظم والمؤسسات كأنها أوعية اضطهاد وانتقاص من المرأة ،ويجعل من الأطروحات الأكاديمية في مجالات المعرفة والفكر ، تصنع الفارق في قيادة وتشكيل الرأي العام وتسطير القوانين والمنظومات والاتفاقيات والمؤتمرات الدولية ،وسائل الإعلام ،بمساعدة أذرع كثيرة ممتدة في جسم المجتمع ، كالجمعيات المهتمة بالشأن النسوي ، والناشطات في مجال حقوق الانسان وأهم مدخل للتأثير هو شعار( التنمية والنساء من أجل حقبة جديدة ) ، وبطبيعة الحال هناك أجندات مضمرة من وراء هذه الجملة ( عالم نسوي خالص ) وبذلك شكلت بطانة الطاغوت الناعم ،وجعلـته مركزا للكون وجعلت التنمية مطية لتمكين المرأة من مراكز صنع القرار ، ليكون الصدام بينها وبين طبيعتها الأنثوية في ظل عولمة المعايير الأخلاقية ،وهكذا انقلبت الموازين والقيم ، وتعامل الرجل مع المرأة معاملة مخلخلة وهشة تحكمها ازدواجية سافرة ومفارقات عجيبة ، من جهة يدفعها دفعا لخوض غمار أصعب المهام وأجلها رتبة ، ومن جهة أخرى يحاسبها حسابا عسيرا على التقصير في مهام المنزل وتربية الأطفال ، ويجعلها تدور مثل الثور في الساقية لتحقيق الانجاز الفردي والتفوق والعبقرية الأنثوية ،يمجدها ويطحنها في مهام متعددة تفوق قدرتها وطبيعتها ، وتصاب بالإحباط والدمار وينتفض الطاغوت الناعم ويحطم البيت على من فيه في لحظة طيش ومكاشفة .
وفي الحقيقة بطانة الطاغوت الناعم متعددة المشارب والأبعاد ، وليس من السهولة ضبطها وتوصيفها ،تتجاذبها مسارين اثنين ، ماله علاقة بثقافتنا وهويتنا ،ومافيه من انتقاص وتحقير للمرأة ، بنشرفهوم مغلوطة لنصوص قرآنية على أنها الدين ولا شئ بعدها ، وماله علاقة بالثقافة الوافدة من سجالات واستراتجيات ظاهرها تمجيد للأنثى ،وباطنها تدمير لطبيعتها وهدر للبذور النفيسة ، والمطلوب منا أن نفكك البنيات المعقدة في الخطابين ، ونواجه التضليل والخداع بالوعي الحقيقي ، ونتحرر من أشكال الهيمنة والاستبداد في الداخل والخارج ، و نتعلم الحكمة وسبل الرشاد ، ولا ننقاد إلا لرب العباد .