السلفية الإصلاحية حديثٌ في المفهوم والقضايا السياسية
السلفية الإصلاحية حديثٌ في المفهوم والقضايا السياسية محمد جبرون
السلفية الإصلاحية حديثٌ في المفهوم والقضايا السياسية
محمد جبرون
السلفية في السياق الثقافي العربي هي إيديولوجية إصلاحية، ظهرت بالعالم العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتمثلتها مجموعة من أعلام الحركة النهضوية العربية، ومن أبرزهم رفاعة رافع الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، والشيخ رشيد رضا ، وعبد الحميد بن باديس، والطاهر ابن عاشور، وعلال الفاسي. تستند هذه الأيديولوجية إلى مجموعة من القناعات والمبادئ الدوغمائية (Dogmatisme)، وفي طليعتها الإيمان بأن نهضة الأمة الإسلامية وصلاحها في الحال والمآل، تتوقف بالدرجة الأولى على صدق وصحة عودتها إلى الإسلام، نصا، وروحا، وتجربة السلف الصالح، أي إسلام ما قبل المذاهب الكلامية، والفقهية، والصوفية.
من الواضح أن هذا الاعتقاد لم يكن حديثا بالمطلق، ولم يبرز مع هذا العصر، بل ظهرت إرهاصاته الأولى -في زمن قديم نسبيا- في القرن السابع عشر، ويعتبر امتدادا لاعتقاد تيار أهل الحديث، غير أنه شهد تطورا نوعيا مع منتصف القرن التاسع عشر، وبالتزامن مع تحولات حضارية كبرى، تجلى جانب منها في حالة التدافع بين ثلاث تيارات فكرية كبرى بالعالم العربي: التيار الليبرالي، المفتون بالحداثة الغربية بكل تجلياتها التقنية والفكرية.. والذي لا يتردد أتباعه في الدعوة إلى اقتفاء أثر هذه الحداثة؛ والتيار الاشتراكي المعجب بالتيار النقدي للغرب، والذي يدعو لتقليد بعض الغرب دون آخر؛ والتيار التقليدي الذي كان يحاول إبداع حداثته دون تعديل جوهري في الموروث.. ومن ثم، فالسلفية الإصلاحية التي شغلت كثيرا من الناس، واستقطبت الكثير من الأتباع في أواخر القرن التاسع عشر، كانت في العمق حالة نقدية ثورية اتجاه الغرب والتقليد معا، الشيء الذي أكسبها شرعية إصلاحية قوية، فالنهضة والحداثة بالعالم العربي -من منظور هذه الأيديولوجية- ممكنة، بل مشروطة بالاستقلال عن الغرب والتقليد معا، وهو ما عكسته انتقاداتها اللاذعة للأيديولوجيات الوافدة كالليبرالية والاشتراكية، وأيضا انتقاداتها للإسلام التقليدي في بعده المذهبي والصوفي.. إن الفكر السياسي السلفي انطلاقا من هذا التعريف الوجيز هو جملة الأفكار السياسية التي عبر عنها رواد هذا الفكر في سياق مدافعتهم وردّهم على التيارات والأيديوجيات المنافسة، وفي مقدمتها الأيديولوجية الليبرالية. وتهم هذه الأفكار بالأساس قضايا الدولة المدنية والليبرالية السياسية.. من قبيل قضايا الاستبداد والشورى؛ والحرية؛ والمواطنة؛ والخلافة.. ولعل الغاية السياسية وراء هذه الأفكار والقضايا هي تلمس طريق بناء نموذج سياسي حديث ومستقل عن الماضي والغرب، ويفيد من تجربة الآخر. وسنحاول فيما يلي الحديث في بعض الأفكار السياسية للسلفية الإصلاحية تمهيدا لمقارنتها بأفكار التيار السلفي الحالي في نسخته الوهابية. وسنركز على قضية الشورى والاستبداد وتنويعات الخطاب السلفي حولها… – في الشورى والاستبداد: من القضايا الأساسية التي اشتغل بها الفكر الإصلاحي السلفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ثنائية الاستبداد والشورى، حيث أنكر بعض الرواد الاستبداد والتفرد بالحكم، وألحوا في المقابل في طلب الشورى وإشراك الأمة في السلطة، بينما دافع البعض عن فكرة المستبد العادل بالرغم من إيمانه بشرعية مطلب الشورى، وميزتها الأخلاقية. ومن أبرز هؤلاء السيد جمال الدين الأفغاني، الذي يجوز اعتباره أول مناضل سياسي ضد الاستبداد الشرقي، الذي اعتبر هذه الآفة أحد أسباب ذهاب الملك وانهيار النظام. وفي هذا السياق حرض الأمة على مقاومة الاستبداد والخروج عليه. وإذا كان الإمام عبده في موقفه من الاستبداد وافق شيخه وأستاذه مبدئيا، وكتب هو الآخر في «تحريمه»، وأوجب الشورى على الحكام، واعتبر -في هذا السياق- أهل مصر، قادرين على المشاركة في السلطة، وأهلا للشورى، فإنه في الواقع آمن بفكرة المستبد العادل، وكتب في آخر حياته مقالا نشر سنة 1899م بمجلة الجامعة التي كان يديرها فرح أنطون بعنوان «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل»، ولعله بذلك عبر عن يأسه من النهضة عن طريق الشورى، وآمن بقدرة المستبد، الوطني، العادل.. على تحقيق آمال شعبه في العدالة والنهضة. ومن أشهر أعلام الإصلاح السلفي الأخرى التي ظهرت في هذه الحقبة والتي كرست حياتها الفكرية والسياسية لمناهضة الاستبداد السياسي الصحفي والمفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي، الذي خلف تراثا غنيا وكبيرا يشهد على بطولته الثقافية في محاربة الاستبداد فكرا وعملا، ومن أشهر مؤلفاته في هذا الباب كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وكتاب «أم القرى»، ويبدو من خلال هذين العملين مركزية الاستبداد في فكر مفكر حلب في تفسير الحال البئيس الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، وهو أصل كل الأدواء. وعموما، إن موقف الحركة السلفية الإصلاحية من الاستبداد والشورى كما يتجلى في النصوص التي بين أيدينا يمكن التمييز فيه بين ثلاث اتجاهات أساسية: اتجاه يحرم الاستبداد ويعتبره أصل الداء الذي تعاني منه الأمة، ويبذل وسعه في إيقاظ الوعي وتنبيه الناس إلى خطورته، وقد برز في هذا الطريق الأفغاني والكواكبي؛ واتجاه مع إيمانه بفساد النظام السياسي الاستبدادي، ورفضه، فإنه يعترف بضعف الأمة عن مواجهته، بل لا يتردد في إعلان رغبته في الاستعانة به لإخراج الأمة من وهدتها النهضوية؛ واتجاه ثالث لا يعتبر الاستبداد السياسي مشكلة، ولا يتحرج في مدحه وسنعرض لبعض خصوصيات هذه الاتجاهات في مقال آخر بحول الله