الدرس المقاصدي عند الإمام ابن حجر العسقلاني من خلال كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري. قضايا ونماذج من خلال كتاب: الإيمان. – د. محمد الإدريسي- المغرب-.
الحمد لله رب العالمين الهادي إلى سواء السبيل جاعل الليل سكنا والنهار معاشا القائل في محكم كتابه:{واقصد في مشيك}1، ثم قوله:{ وما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون}2. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على شفيع الورى يوم البعث، من أوتي جوامع الكلم، الذي أثنى عليه ربه من فوق سبع سماوات فزكاه من خلال قوله سبحانه:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}3. وبعد:
يعتبر الحديث النبوي الشريف ثروة خصبة للباحثين سواء تعلق الأمر بالتأصيل للفقه أو أصوله، وليس هذا فحسب بل كذلك بالنسبة لعلم مقاصد الشريعة وقواعده التي يتقاسم كثير منها مع علم أصول الفقه، وهو ما يؤكد الارتباط الحاصل بينهما، وإن كان في العقد الأخير تقرر الفصل بينهما.
وعلى هذا الأساس قررت الكشف عن شيء من علم المقاصد وأهم قضايا وأفكاره من خلال نماذج لأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم قام بشرحها وكشف معانيها ابن حجر في كتابه الفتح، وبالضبط تلك التي صنفت وأدرجت ضمن كتاب الإيمان. لكن قبل هذا لابأس أن أشير إلى أني لن أعالج ما يتعلق بكل من مفهوم المقاصد وأقسامها، ولا حتى ما تعلق بالعلامة ابن حجر وحياته ولا الكتاب موضوع المقال، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه سبق لي في مقال سابق الكشف عن ذلك، ثم لأن ما تعلق بالشق النظري من هذا المقال قتل بحثا ويسهل الوصول إليه في مضانه ومراجعه وهي ميسرة ومتاحة أمام الباحثين أو حتى من سيكتب لهم قراءة هذا المقال الذي أرجوا الله تعالى أن يكتب له القبول.
وبخصوص موضوع هذا المقال المتعلق بالدرس المقاصدي وقضاياه وأهم أفكاره عند ابن حجر، فلابد قبل الكشف عن ذلك من سوق الأحاديث النبوية التي تقرر تقديمها كنماذج للدراسة والبحث، والتي على ضوئها سيتأكد حضور علم مقاصد الشريعة واعتباره عند هذا الرجل وهو يشرح حديث الرسول الكريم، وقد اخترت ثلاثة نماذج سيما وأنه بعد الوقوف عليها تبين أنها تفي بالغرض، وهي كالآتي:
– النموذج الأول: ما جاء في باب إطعام الطعام من الإسلام عن عمرو بن خالد، قال: حدثنا الليث، عن يزيد، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال:” تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.”4
إن هذا الحديث النبوي الشريف ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في سياق جوابه عن سؤال كما يظهر منه عن أي أعمال الإسلام خير، فحصرها عليه السلام في أمرين اثنين وهما إطعام الطعام وإفشاء السلام. وبخصوص ما جاء من قضايا مقاصدية في سياق شرح ابن حجر لهذا الحديث، فقد علل رحمه الله اختزال الرسول الكريم للإسلام في هذين الأمرين تعليلا مقاصديا مصلحيا إن صح التعبير، حيث ذكر بأن جواب النبي صلى الله عليه السلام كان القصد منه كف الأذى والضرر عن الغير، سواء كان ذلك باللسان أو باليد، ولهذا أرشدنا إلى هاتين الخصلتين. قال رحمه الله:” وعلى تقدير اتحاد السؤالين جواب مشهور: وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، فيمكن أن يراد في الجواب الأول تحذير من خشي منه الإيذاء بيد أو لسان فأرشد إلى الكف”5. أما القضية المقاصدية الثانية التي ذكرها ابن حجر فهي المصلحة العامة أو النفع العام كما نص على ذلك بشكل صريح. قال بهذا الخصوص:” وفي الثاني تغيب من رجي فيه النفع العام بالفعل والقول فأرشد إلى ذلك، وخص هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت لما كانوا فيه من الجهد ولمصلحة التأليف. ويدل لذلك أنه عليه الصلاة والسلام حث عليهما أول ما دخل المدينة كما رواه الترمذي وغيره مصححا من حديث عبد الله بن سلام”6.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذا الحديث يمكن اعتباره دليل صريح في التأصيل لتحقيق المناط الخاص، ذلك أن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عن سؤال الرجل قد يختلف في حال لو سأله شخص آخر عن أي الإسلام خير، وغير خفي عن الغير العلاقة الموجودة بين هذا الأصل ومقاصد الشريعة وبالأخص مراعاة المآل، وهو جوهر المقاصد وروحها، وأداة من أدوات الاجتهاد ونوع من أنواعه. وتأكيدا لهذا الأمر أسوق كلاما للإمام الشاطبي رحمه الله، وقد جاء فيه عنه الآتي:” وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص المنحتم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر…”7.
النموذج الثاني:حديث جاء في الباب المعنون بباب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وفيما يلي نصه:” حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن حسين المعلم، قال حدثنا قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”8.
إن الناظر فيما ذكره ابن حجر وهو يتناول هذا الحديث بالشرح والبيان يدل دلالة قاطعة على حضور الفكر المقاصدي واعتباره من قبل هذا الرجل عند تناوله هذا الحديث بالشرح والبيان، وهو ما يؤكد القيمة التي تلعبها المقاصد في تبسيط كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي على أساسه يمكن اعتباره شرحا مقاصديا للحديث النبوي على غرار التفسير المقاصدي للقرآن الكريم. ومن أهم القضايا المقاصدية التي أشار إليها ابن حجر في معرض شرحه لهذا الحديث قضية القصد والنيةأو ما يعبر عنه أحيانا بالإرادة التي علق عليها النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، وهي مرتبطةبجلب المصلحة للأخر ودفع المفسدة عنه، وهي روح وجوهر هذا العلم، وليس هذا فحسب بل هي روح وهدف شريعة الإسلام. قال رحمه الله وهو يبين مفهوم المحبة الوارد في نص الحديث- وهو بالمناسبة تعريف للإمام النووي- ما يلي:” والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرا، قال النووي: المحبة:الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بعقله إما لذاته كالفضل والكمال وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضر. انتهى ملخصا”9.
النموذج الثالث: حديث ذكره المصنف في باب عنونه بباب حب الرسول من الإيمان، وهذا نصه: حدثنا أبو اليمان، قال أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده”10.
دائما في سياق الوقوف عن الأثر المقاصدي من خلال شرح الإمام لهذا الحديث، فقد جعل رحمه الله تحقيق الغاية السالفة الذكر في المثال السابق – جلب المصلحة ودفع المفسدة –سببا كافيا يورث حب الغير فما بالك بحب الرسول صلى الله عليه وسلم،فيكتسب بذلك من حقق الشرط المذكور في الحديث وصف الإيمان الذي ذكره عليه أفضل الصلاة والسلام. قال رحمه الله ما يلي:”وفي هذا الحديث إيماء إلى أفضلية التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمةمن الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى اله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، إما بالمباشرة، وإما بسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه”11.
إن الناظر في كلام ابن حجر الأخير يجده نص صراحة على السبب الموجب لمحبة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما قام به عليه الصلاة والسلام من نفع وخدمة للبشرية بأن هداهم للإسلام فكان سببا لسعادتهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، وأبعد عنهم الضنك في الدنيا والشقاوة والخسران في الآخرة، وهذا هو أساس علم المقاصد ورحاه التي يدور عليها، فكان هذا الحديث النبوي والشرح الذي قدمه له رحمه الله مثالا آخر على اعتماده وتوظيفه لهذا العلم وقواعده في كشف معاني الحديث النبوي.
كتبه عبد ربه ليلة الأحد 14 جمادى الأولى سنة 1443هجرية، الموافق 18 دجنبر سنة 2021 ميلادية، بمدينة برشيد وسط المملكة المغربية.
الهوامش:
1- سورة لقمان الآية: 19.
2- سورة المؤمنون الآية: 115.
3- سورة النجم الآية: 4.
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري للأمام ابن حجر العسقلاني، ج1/ ص 121، ط1، سنة 1434ه، دار الرسالة العالمية، أشرف على تحقيقه كل من شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد.
5- المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
6- نفسه، نفس الجزء والصفحة.
7- الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، ج4/ ص: 57- 58، ط: سنة 1423ه/ 2003م، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، تحقيق محمد عبد الباقي الفاضلي.
8- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، ج1/ ص 125.
9- المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
10- نفسه، نفس الجزء والصفحة.
11- نفسه، ج1/ ص 128- 129.