التنويه بفوائد السِّيَر للفقيه- بلال فيصل البحر -العراق-
بسم الله الرحمن الرحيم
التنويه
بفوائد السِّيَر للفقيه
الحمد لله العلي الغفار، وسلام على عباده المصطفين الأخيار، لاسيما سيدهم المجتبى المختار، وعلى آله السادة الأطهار وأصحابه النُّجُب الأذمار، وبعد:
فإن علم السيرة عظيم القدر، جليل الذكر، يحل من علوم الإسلام محل السور من البيت، وينزل منها منزلة الإدام من الزيت، فلا جرم قال القاضي أبو حامد الـمرْوَرُّوذي الشافعي: (السّيرَ بحرُ الفتيا، وخِزانَة القضاء، وعلى قَدْر اطلاع الفقيه عليها يكون استنباطُه)، نقله أبو حيان التوحيدي في (البصائر).
وقد حكى الماوردي في (الحاوي) عن الشافعي أنه قال: (أخذ المسلمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا السيرة في قتال المرتدين من أبي بكر رضي الله عنه، وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه).
وعلم السيرة منقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما اتفق عليه أهل السير، فهو حجة لما تقرر في الأصول من حجية إجماع أهل كل فن على مسألة في فنهم، كما قرَّره الطوفي وغيره.
والثاني: ما روي في السنة نظيره من الحديث المتصل سواء كان صحيحا أو ضعيفا، فإن كان صحيحا فلا إشكال فيه، وإن كان ضعيفا فله أحكام الحديث الضعيف؛ عملا واعتضاداً.
والثالث: ما ليس له نظير؛ فإن كان متصلا صحيحا فلا إشكال، وما كان معضلا أو مرسلا أو مضعفا: فإن كان له أصل كلي يشهد له؛ عُمل به، وكذا إن كان مما لا تدفعه الأصول، وإن كان مما يناقض الأصول ويباين المعقول ويخالف المنقول فلا عمل عليه.
ومنه ما كان ضعيفا، وهو في المناقب والفضائل والمعجزات، لكن التجويز العقلي لا يأباه، ومنه ما يُستغنى بشهرته عن ضعف إسناده، كقصة الحباب في عسكر بدر وقصة دعاء الطائف ونحوه، فهذا يُعمل به، وقد ذكر أبو الفضل التميمي في كتاب (اعتقاد أحمد) أن الإمام أحمد كان: (يسلِّم أحاديث الفضائل ولا ينصب عليها المعيار، وينكر على من يقول: إن هذه الفضيلة لأبي بكر باطلة، وهذه الفضيلة لعلي باطلة؛ لأن القوم أفضل من ذلك)؛ فشدَّ الضعيف في المناقب بأصل فضل الصحبة وشرفها الذي لا يقاومه شرف، فيحتمل فيه الحديث الضعيف وشديد الضعف.
والفقيه من أعمل النظر في أخبار السيرة، واجتهد في استنباط الأحكام والقواعد وضبط الأصول منها، كما صنع علماؤنا في أبواب العلم، فمن الأصول المقررة:
1- السبر والتقسيم: وهو عند علماء الأصول من مسالك العلة في باب القياس عندهم، وهو: حصر أوصاف الأصل المقيس عليه وإبطال بعضها بدليل، فيتعين الباقي للعلية، سُمي بذلك؛ لأن الناظر يتتبع الأوصاف فيحصرها ويختبر صلاحية كل واحد منها للعلية، فيبطل ما لا يصلح ويبقي ما يصلح، والسبر: الاختبار، والتقسيم: تعداد الأوصاف وحصرها، كقياس الذُرة على البُر في الربوية؛ فيقول المستدِل: بحثت عن أوصاف البُر فما وجدت ما يصلح علة للربوية إلا الطعم أو القوت أو الكيل، لكن الطعم والقوت لا يصلح لذلك عند التأمل، -ويذكر سبب عدم صلاحيته- فيتعين الكيل.
وله في السيرة أصل، وهو ما قال الحافظ في (الفتح): (وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويـمكن أن يؤرَّخ بـها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما وقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يـُجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم).
فتأمل كيف سبر الصحابة الأوصاف وحصروها في أربعة: المولد والبعثة والهجرة والوفاة، ثم اجتهدوا في تنقيحها وتخليص الوصف المناسب الصالح للعلية، فألغوا ما لا يصلح، واستبقوا ما يصلح؛ فأناطوا الحكم به كما هو مبين في كلام الحافظ.
ولاريب أن من أجلِّ الحوادث هجرتُه عليه السلام، وقد حكى السهيلي في (الروض الأُنُف) وابن كثير في (تاريخه) اتفاق الصحابة على أن ابتداء التاريخ بالهجرة النبوية كان على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بـعد أن شاور فيه عليا عليه السلام وكبار الصحابة.
وفي (سيرة عمر) لأبي الفرج بن الجوزي عن ابن المسيب قال: (أول من كتب التاريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة من علي عليه السلام).
وعند ابن إسحاق عن الشعبي قال: (أرَّخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرَّخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرَّخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرَّخوا من الفيل، ثم أرَّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة).
وبوَّب البخاريُّ في (الصحيح): (باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ) وساق بسنده عن سهل بن سعد قال: (ما عدُّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدُّوا إلا من مَقْدَمه المدينة)، وذكره في (تاريخه) أيضا، وأخرجه الحاكم ولفظه عنده: (أخطأ الناسُ في العدد، ما عدُّوا من بيعته، ولا من وفاته، إنما عدُّوا من مقدمه المدينة).
وقوله (أخطأ الناس) أي: تَخَطَّوا البيعةَ والوفاة وتجاوزوهما في عدِّ التاريخ.
وسبب ذلك فيما ذكر غير واحد من أهل العلم بالتاريخ، أن عمر رضوان الله عليه رُفع إليه صكٌّ لرجل على آخر، وفيه أنه يحلُّ عليه في شعبان، فقال عمر: أيُّ شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الاتية؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرَّفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخوا كتأريخ الفرس، فكره ذلك عمر، وكانت الفرس يؤرِّخون بـملوكهم واحداً بعد واحد.
وقال آخر: أرِّخوا بتأريخ الروم، وكانوا يؤرخون بـملكهم إسكندر بن فيليبس المقدوني، فكره ذلك.
وقال قائل: أرِّخوا بـمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل بـمبعثه، وقال آخرون: بل بـهجرته، وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام. فمال عمر إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتَّفقوا معه على ذلك.
وحكى الحافظ سبباً آخر في وضع التاريخ، أخرجه أبو نعيم الفضل بن دُكين في (تاريخه) ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمرُ الناسَ فقال بعضهم: أرِّخْ بالمبعث. وبعضهم: أرخ بالهجرة. فقال عمر: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل؛ فأرِّخوا بـها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتَّفقوا قال بعضهم: ابدؤوا برمضان. فقال عمر: بل بالمحرَّم فإنه منصرف الناس من حجِّهم، فاتَّفقوا عليه.
وعند ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين قال: قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئاً يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا. فقال عمر: هذا حسن فأرخوا. فلما جمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد. وقال قائل: للمبعث. وقال قائل: من حين خرج مهاجراً. وقال قائل: من حين توفي. فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأي شهر نبدأ؟ فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من شعبان. وقال قائل: من رمضان. فقال عثمان: أرخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج. قال: وكان ذلك سنة سبع عشرة وقيل سنة ست عشرة، في ربيع الأول. ذكره الحافظ، وقال: (فاستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرّم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم).
شهر التاريخ
والجمهور على أن أول التاريخ الهجري من شهر المحرَّم، ونقل ابن كثير أن أبا القاسم السُهيليُّ حكى عن مالك رحمه الله أنه من شهر ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) {التوبة 108} أي: من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ.
ذكره الحافظ ابن كثير {3/207} وتعقبه بقوله: (ولا شك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العملَ على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرَّم، فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام).
والذي في كتاب السهيلي: أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من هذه الآية؛ لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا، فتعيَّن أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعبد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله (من أول يوم) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي.
وهو انتزاع حسن كما قاله الحافظ ابن كثير، وإن كان المتبادر من قوله (أول يوم) أي أول يوم دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة كما قاله الحافظ ابن حجر.
ووقع في (تاريخ ابن جرير الطبري) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب هو الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة، قدمها في شهر ربيع الأول، أمر بالتاريخ.
وهذا غلط من وجوه:
الأول: أن إسناده منقطع من أجل عنعنة ابن جريج؛ فإنه قبيح التدليس مكثر منه كما قاله الدارقطني وغيره، ولم يصرح بالسماع، أو ما يقوم مقامه.
الثاني: أنه من مرسل الزهري، وقد تقرر أن مراسيل الزهري قبيحة لا حجة فيها كما قاله الشافعي؛ لأن الزهري حافظ كبير لا يُرسل إلا لعلة، قاله الشوكاني وغيره.
الثالث: أنه خلاف المحفوظ الذي جرى عليه نقلُ الكافة من أهل العلم بالأخبار والسير والتاريخ كما مرَّ ذكره.
وذكر الحافظ في (الفتح) عند قول البخاري: (من أين أرخوا التاريخ) أن البخاري كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، قال: وقد روى الحاكم في (الإكليل) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لـمَّا قدم المدينة أمر بالتاريخ، فكُتب في ربيع الأول.
قال الحافظ: (وهذا معضل، والمشهور خلافه). وفيه قولٌ ثالث أن أول من أرَّخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن، ذكره الحافظ في (الفتح) وقال: (أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى). والله أعلم
2- ومن ذلك: مسألة النسخ قبل الأداء، والمقرر أنه يجوز النسخ قبل الفعل بعد دخول الوقت، إجماعا، وهل يجوز بعد وقت الفعل؟ قالت الأشعرية وأكثر الشافعية والحنابلة وذكره الآمدي قول أكثر الفقهاء: يجوز، ومنعه أكثر الحنفية والمعتزلة، وأصله ما تواتر في السيرة من نسخ الخمسين صلاة، وهو في (الصحيح) أيضا.
وفي البخاري عن أبي هريرة: أنه عليه السلام بعثه في بعث، وقال: (إِن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار)، ثم قال -حين أردنا الخروج-: (إن النار لا يعذب بها إلا الله، فإِن وجدتموهما فاقتلوهما).
وأمر عليه السلام بكسر قدور من لحم حمر إنسية، فقال رجل: أو نغسلها؟ فقال: (اغسلوا). متفق عليه، ولأحمد: أنه عليه السلام بعث أبا بكر يبلغ “براءة”، فسار ثلاثا، ثم قال لعلي: (الحقه وبلغها أنت)، وهذه الأخبار مما اتفق عليه أهل السير والحديث.
3- ومن ذلك: مسألة الاحتجاج لخبر الواحد والعمل به، وقد أخذه الأصوليون مما تواتر عند أهل السيرة من ابتعاث النبي عليه الصلاة والسلام لرسله لإبلاغ الدعوة إلى ملوك الأرض، وأجاب بعض المعتزلة بأنه كان يبعثهم للفتوى والقضاء، وهو متهافت؛ لأنه أرسلهم بإبلاغ الوحي كما هو ظاهر، ونحن لم نحتج ببعث الصحابة لتعليم من دخل في الإسلام حتى يقال بعثهم للفتوى والقضاء، بل الحجة بإرسال الصحابة لتبليغ من لم يسلم كبعث دحية لهرقل وبعث حاطب للمقوقس وغيرهما.
4- ومن ذلك: مسألة تخصيص النص بالمصلحة؛ فإن مستند من يقول بجواز تخصيص النص بالمصلحة: ما وقع ببدر من إطلاق سراح كل أسير مقابل أن يُعلِّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، إذ الأصل مُفاداتهم أو المنُّ عليهم أو قَتْل من يستحق القتل منهم، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل النضر بن الحارث، فقتله علي بن أبي طالب، وكما وقتل عقبة ابن أبي معيط، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وأما إطلاقهم بمقابل مصلحة أو منفعة فهو اجتهاد نبوي عُرف من سيرته مع أهل بدر، فيخص به عموم الأصل.
5- وينبني عليه أيضا: مسألة الاجتهاد النبوي، وقد تنازع العلماء في حكم اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، فالجمهور على جوازه لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، ولأن المجتهد يحتاج إلى آلات وهي في النبي أكمل منها في غيره، ولأنه يُسدَّد ولا يُقَرُّ على الخطأ لو قُدِّر صدور الخطأ منه؛ فاجتهاده أكمل؛ فكان بالجواز أولى.
وذهب بعض الأشعرية وكثيرٌ من المعتزلة إلى عدم جوازه؛ لاستغنائه عنه بالوحي، وما وقع في السيرة من اجتهاده في واقعة ماء بدر وعمله برأي الحباب يردُّه.
6- ومن ذلك: ما تقرَّر في الأصول أنه يصح تعليل الحكم الثبوتي بالعدم عند الشافعية والحنابلة والإمام وأتباعه، ومنعه الحنفية والآمدي وابن الحاجب والإمام في (المعالم)، ووقع لمحمد تعليل ما لا خُمس فيه كاللؤلؤ: بأنه لم يوجَف عليه بخيل ولا ركاب.
وللجمهور: أنه كتعليل العدم بالثابث، كقولنا النفط فيه الخمس لأنه دفين، ولأنه يصح تعليل ضرب السيد لعبده بعدم امتثاله، وهو كثير في كلام الخلافيين من الفقهاء، ومنه تعليل مسألة عدم هدم التماثيل والنُّصُب والتصاوير: بأنها لا تُعبد من دون الله، وانتزاعه من ترك النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حين دخل الكعبة وهدم الأصنام، صورةَ عيسى وأُمه عليهما السلام؛ لأن فيهما إشارة إلى إبطال القول بإلوهيتهما، ومسح صورة إبراهيم وإسماعيل لما فيها من تقرير الشرك وهو استقسامهما بالأزلام.
7- ومن ذلك أيضا: جواز تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم خلافا للمعتزلة؛ وجزم بوقوعه مويس بن عمران منهم، واحتج بقضية النضر بن الحارث وهي على ما حكاه ابن هشام في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر الكبرى، توجه إلى المدينة ومعه الأسرى، فلما كان بالصفراء أمر عليا فقتل النضر بن الحارث، فقالت قتيلة بنت الحارث أخت النضر:
أمحمدٌ يا خيرَ ضِنء كريمةٍ ….. في قومها والفحلُ فحلٌ مُعْرِقُ
ما كان ضرَّكَ لو مَنَنْتَ وربما…مَنَّ الفتى وهو الـمُغِيظُ الـمُحْنِقُ
أو كنتَ قابلَ فِدْيةٍ فليُنْفِقَنْ …….. بأعزِّ ما يغلو بهِ ما يُنْفِقُ
فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أسرتَ قرابةً …. وأحَقُّهمْ إنْ كان عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُهُ ………. للهِ أرحامٌ هناك تُشَقَّقُ
صبراً يُقَادُ إلى الـمَنِيَّةِ مُتْعَبا …… رَسْفَ المقيَّدِ وهو فانٍ مُوثَقُ
والضنء: الأصل والمعدن، والرسف: المشي في القيد، قال ابن هشام: الله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: (لو بلغني هذا قبل قتله لـمَنَنْتُ عليه).
8- ومنه: مسألة الهجرة وسكنى بلاد الكفر، وقد تعتريها الأحكام الخمسة، فتكون واجبة عند العجز عن النهوض بالتكاليف الشرعية، أو خوف الفتنة في الدين، وإذا طلبها الإمام تقويةً لسلطانه، وتكون جائزة عندما يصيب المسلمَ بلاءٌ يضيقُ به، وتكون محرمة عندما تستلزم هجرتُه إهمالَ واجب من الواجبات الشرعية لا يقوم بها غيره، ومندوبة للاطلاع على ما عندهم من أساليب ومعارف، ومباحة في حق من يعجز عنها، إما لمرضٍ، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان.
وأهل العلم ينتزعون أصلها مما اشتهر في السير من إذنه عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، وعلل الإذن بأن: (فيها مَلِكٌ لا يُظلم عنده أحد)، فجعل مناط الحكم انتفاء الظلم، فعلم أن من لا يأمن على نفسه وعرضه ودينه في بلاد الإسلام، فله أن يهاجر إلى بلاد الكفر التي يأمن فيها، وقد نقل ابن حزم عن الزهري أنه حين ضيَّق عليه الوليد الفاسق وتوعَّده قال: إذن ألحق بالروم.
9- ومن المسائل: الاحتفال بالمولد الشريف أَخْذاً من استقبال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بالدف والنشيد، كما قال أنس: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخل المدينة جاءت الأنصار برجالها ونسائها، فقالوا: إلينا يا رسول الله فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب، قال: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار … يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتحبوني)؟ فقالوا: إي والله يا رسول الله، قال: (أنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، أنا والله أحبكم).
10- ومنه: مسألة الاستعانة بالكافر المأمون، فإن في الوثيقة المدنية كما رواه أهل السير: (ولا ينصر كافراً على مؤمن) فاحتج به المانع منه، وعورض بأنه عليه الصلاة والسلام استعان باليهود ورضخ لهم، وبأن النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر استأجرا مشركا وهو عبد الله بن أريقط، واستعارته أدرعا من صفوان وهو مشرك، وفي (العمدة) للنقيب: (ولا يستعين بمشرك إلا أن يقلَّ المسلمون، وتكون نيته حسنة للمسلمين).
11- ومن ذلك: ما ثبت في السيرة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في دار أنسِ بن مالك، فآخى بينهم عليه الصلاة والسلام على الحق والمواساة والتوارث دون ذوي الأرحام، ثم نُسخت المؤاخاة بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فاستقر التوارث بالقرابة والرحم.
فأسباب الإرث: نكاح ورحم وولاء عتق، وعند عدمهن بموالاة -وهي المؤاخاة- ومعاقدة -وهي المحالفة- وبإسلامه على يديه، والتقاطه، وكونهما من أهل الديوان وهو اختيار ابن تيمية، ومن منعه وهم الجمهور يقول: يمكن أن يوصي المتآخي ببعض ميراثه لمن آخاه، واختاره النووي، والأصل فيه ما وقع في السير.
وهذا كميراث القُعْدد وقد ذكر ابن حزم أنه مات بقرطبة سنة 422 محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد الله بن مروان ابن عبد الله بن مسلمة بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ فورَّث ابن حزم بالقُعدد مالَه لمحمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن عبد الرحمن ابن سعيد الخير بن عبد الرحمن بن معاوية.
وقد انقرض جميع ولد عبد بن قصي، وكان آخر من مات منهم رجل مات في أيام بني العباس؛ فورثه بالقُعدد عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وإسماعيل بن محمد ابن عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وعبيد الله ابن عروة بن الزبير عبد المطلب بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
12- ومنه: مسألة الصلح مع اليهود، أصله الوثيقة المدنية، وفيها: (إذا دُعي اليهود إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين).
وفي الصلح معهم اليوم على هذا الحال من أخذهم فلسطين وحربهم أهلها والإفساد في البيت المقدس، قولان، الأظهر: لا، وفاقا لما أفتى به قدماء الأزهريين كمخلوف ومَنُّون والطنيخي والبري ومحمد السبكي وشلتوت ومأمون، وخالف فيه جاد الحق والنجديون، واستندوا إلى قضية الوثيقة وما في نصها الوارد بالجواز، وقضيته أن للإمام إذا ظهرت له مصلحة في الصلح إبرامه معهم.
وفي الهدنة والمعاهدة معهم قولان، أظهرُهما: الجوازُ خلافا للقرضاوي؛ قياسا على الصلح مع اليهود ولعموم حديث: (تصالحون الروم) إذا أذن الإمام أو نائبه، وكان فيها مصلحة محقَّقة راجحة، ولم تتضمن شرطا فاسداً كإبطال فرض، أو إهدار أرض، أو مضاهاة الكفار على أهل الإسلام ونحو ذلك، وهل يشترط عدم تأبيد عقد الهدنة؟ الجمهور: بلى، خلافا لزهرة.
والأصل فيه مذهب الجمهور بجواز الهدنة خلافا للظاهرية، لقوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وعمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، فإن عقده غير الإمام: فالجمهور على منعه خلافا للحنفية، والأظهر أنه موقوف على نظر الإمام أو نائبه، بحسب المصلحة العامة للدولة.
13- ومنه: أخذ العلماء جواز إطلاق سراح الأسير مقابل فدية يدفعها نقداً وكان يفدى مقابل أسير من المسلمين في صفوف الأعداء؛ مما رواه ابن إسحق أن نوفل بن المغيرة تورط في اقتحام الخندق فقُتل، فغلب المسلمون على جسده، فعرض بنو مخزوم على النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف درهم في جسده، فقال: (لا حاجة لنا في جسده ولا في ثمنه) ودفعه إليهم، فهو أصل في تقرير هذا المعنى.
14- ومنه: جواز بيع التماثيل للإمام ونائبه والانتفاع بثمنها بيعا أو بجلب السُّيَّاح لرؤيتها، وهو نوع إجارة يتخرَّج على وجه استخرجه أبو حامد الجاجرمي الشافعي بجواز استئجار الريحان للشَّم؛ أصله ما ذكره البلاذري في (الأنساب) أن معاوية جيء له بتماثيل من صُفْر غنمها الغزاة من الروم، فأرسلها إلى الهند وباعها وانتفع بثمنها.
15- ومن المسائل: مشروعية قضاء الفائتة من الصلوات، وأن من أخرَّها عن وقتها لحاجة مشروعة فلا إثم عليه، أصله تأخير الصلاة يوم الخندق وخبر رد الشمس فيها، وقد حكى ابن دقيق العيد قولين للعلماء في أن هذه الصلاة بعدما رُدَّت الشمس هل كانت أداء أم قضاء؟ وجزم ابن تيمية في (النقض على ابن المطهر) بأن الصلاة تقع والحال هذه قضاء لخروج الوقت، وتبعه الذهبي وغيره.
وخبر ردِّ الشمس له صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها، ذكره أبو جعفر الطحاوي وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد الوقتُ لما ردَّها عليه، وحكى عن الحافظ أحمد بن صالح المصري أنه قال: (لا ينبغي لمن كان سبيله العلم، التخلُّفُ عن حفظ حديث أسماءَ في ردِّ الشمس، لأنه من علامات النبوة) ونحوه لأبي عبد الله البصري المتكلم الملقب (جُعْل).
واختار تصحيحه القاضي عياض والحافظ أبو القاسم الحَكَاني وصنَّف في تصحيحه جزءاً أسماه (مسألة في تصحيح ردِّ الشَّمْس وترغيب النواصب الشُمْس)، وكذا جمع الجلال في تصحيحه جزء (كشف اللَّبْس في حديث ردِّ الشَّمس) وصححه الإمام حازم القرطاجنّي فقال في «مقصورته»:
والشَّمس ما رُدَّتْ لغير يوشعٍ لمـَّا غزا ولعليٍّ إذْ غَفَا
وقد نقل الصالحيُّ أن الجلالَ قال: إن استدلال القرطبي على عدم تجدُّدِّ الوقت بقصة رجوع الشمس في غاية الحُسن، ولهذا حكم بكون الصلاة أداء، وإلا لم يكن لرجوعها فائدةٌ إذا كان يصحُّ قضاءُ العصر بعد الغروب، وقال الإمام نور الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر الصابوني في (المنتقى): (إن المقصود بردِّ الشمس ردُّ الوقت حتى تؤدى الصلاة في وقتها).
والمانع من كونها أداء يستنكر الخبر، كما قاله طائفة من الحفاظ منهم ابن تيمية والذهبي وابن كثير، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في (موضوعاته)، وأن متنه منكر؛ فلا يخلو تفويت العصر أن يكون جائزاً أو لا؟ وعلى الأول: لا إثم على عليٍّ عليه السلام في ذلك، ولا سيما وفي الحديث أنه معذور بنوم النبي صلى الله عليه وسلم في حَجْره، وإن كان غير جائز فهو من الكبائر التي أعاذ الله عليَّاً من ارتكابها. وأجيب: بمنع عدم جوازه للعذر.
16- ومنها: جواز القيام لأهل الفضل وخطابهم بالسيادة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار، حينما قدم سعد بن معاذ كما رواه أهل السير: (قوموا لسيِّدكم).
وقد احتج به النوويُّ في (كتاب القيام) له ونقل عن البخاري ومسلم وأبي داود أنهم احتجوا به، واحتج به البيهقي وغيره أيضا، وقال مسلم: (لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثا أصح من هذا).
وفي الاستدلال به لاستحباب القيام بحث للحافظ في (الفتح)؛ فإنه تعقبه برواية (المسند) وفيها: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) وسنده حسن، قال: (وهذه الزيادة تخدش في الاستدلال بقصة سعد على مشروعية القيام المتنازع فيه).
ونقل عن ابن الحاج في (المدخل) أنه اعترض البخاريَّ في استدلاله به لجواز القيام بوجوه:
أحدها: أن القيام كان لإنزال سعد، بدليل رواية (فأنزلوه) ولأنه خصَّ به قومه الأوس، ولو كان مستحبا لعمَّ به الجميع.
وثانيها: أنه عليه السلام لم يفعله ولا أمر به أصحابه.
وثالثها: أن الاستدلال به خارج عن محل النزاع، لأن القيام لسعد كان من جنس القيام للغائب أو لتهنئته بما حصل له من الكرامة في قضية التحكيم، ونحوه للتوربشتي في (شرح المصابيح).
وفيه نظر، فإن الثاني والثالث غير مسلم كما لا يخفى، والأول فيه أن أمره لهم بإنزاله لا يقتضي امتناع كون القيام لاحترامه وتعظيمه، بدليل أنه علل القيام والإنزال بكونه سيدهم، فإنه عقبه بالفاء المفيدة للتعقيب كما ترى، وقد تقرر في الأصول أن تعقيب الحكم بوصف أو العكس بالفاء، يقتضي أن هذا الوصف هو علة الحكم، وعليه فإنه أمرهم بالقيام له وبإنزاله، فبطل تخصيص القيام بمجرد الإنزال، ولذا قال لهم (قوموا إلى سيدكم) ولم يقل (لسيدكم) إشارة إلى أن القيام لتعظيمه وإنزاله معا كما هو قضية كلام الطيبي، وقد قال العلامة الخديم:
قيامُ مدخولٍ عليه حُظِرا…………لداخلٍ يُحِبُّهُ تَكَبُّرا
وحيث لا يُحِبُّ فهو يُكرهُ…إن كان يُخشى أن يُثِيرَ كِبْرَهُ
وجوَّزوه لسوى مُحِبِّهِ…………تَكْرُمَةً إنْ أمِنَ الكِبْرَ بهِ
ويُستحَبُّ للمُصابِ والحَكَمْ……وقادمٍ ومُتَجَدِّدِ النِّعَمْ
وحيثُ أدى تركُهُ لفِتنهْ…………..أو لمُقاطعةٍ أوْجِبَنَّهْ
17- ومنه: ما وقع في السير أنه كان من بين المغانم: صُحف التوراة، فطلب اليهود ردَّها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بردها إليهم مع كونها محرَّفة، ولكن لا يمتنع احترامها، ولهذا أفتى القابسي وابن عرفة بمنع الاستنجاء بها وتعريضها لما فيه امتهانها كالأكل عليها لهذا الخبر.
18- ومنه: جواز قتل من لا يجوز قتله إذا كان ذا رأي في الحرب ونكاية أو كان مظاهراً على المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمد بن مسلمة، ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب، جاز قتله؛ لأن دريد بن الصِّمَّة قُتل يوم حنين مع كونه شيخا لا قتال فيه، وإنما خرج به قومه يستعينون برأيه؛ فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب.
19- ومنه: مسألة القتال في الأشهر الحرم، وهو نوعان:
الأول: قتال دفع، وقد نقل الإجماعَ على جوازه غيرُ واحد من أهل العلم.
الثاني: قتال الطلب، والجمهور على جوازه سواء كان ابتداؤه قبل الشهر أو بعده، لأن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقول تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وبغزو النبي صلى الله عليه وسلم الطائف في الأشهر الحرم، وقيل بمنعه إلا أذا شرع فيه قبل الشهر الحرام فله إتمامه، وحملوا غزو النبي صلى الله عليه وسلم الطائف على هذا.
والأصل فيه قصة سرية ذات نحلة وأصحاب عبد الله بن جحش، وفيها قال أبو بكر وقيل غيره:
تعدُّون قتلا في الحرام عظيمةً … وأعظمُ منهُ لو يرى الرُّشْدَ راشدُ
صدودُكمُ عمَّا يقول محمدٌ ………… وكُفْرٌ به واللهُ راءٍ وشاهدُ
وإخراجُكمْ من مسجد الله أهلَهُ … لئلَّا يُرى لله في البيت ساجدُ
فإنا وإنْ عيَّرْتمونا بقتلهِ ………. وأرْجَفَ بالإسلام باغٍ وحاسدُ
سَقَيْنا من ابنِ الحضرميِّ رِماحَنا …. بنخلةَ لـمَّا أوقدَ الحربَ واقِدُ
دماً وابنُ عبد الله عثمانُ بيننا …….. يُنازعه غِلٌّ من القَدِّ عانِدُ
20- ومنها: قد عُلم أن لبس زي الكفار وذكر كلمة الكفر من غير إكراه كفر؛ فلو مصلحة المسلمين إلى ذلك دعت، وحاجتهم إلى من يفعله اشتدت؛ فالذي يظهر أنه يصير كالإكراه فلا حرج فيه.
وقد اتفق مثل ذلك للسلطان صلاح الدين؛ فإنه لما صعب عليه أمر ملك صيدا وحصل للمسلمين به من الضرر الزائد ما ذكره المؤرخون ألبس السلطان صلاح الدين اثنين من المسلمين لبس النصارى وأذن لهما في التوجه إلى صيدا على أنهما راهبان وكانا في الباطن مجهزان لقتل ذلك اللعين غيلة؛ ففعلا ذلك وتوجها إليه وأقاما عنده على أنهما راهبان، ولا بد أن يتلفظا عنده بكلمة الكفر وما برحا حتى اغتالاه وأراحا المسلمين منه ولو لم يفعلا ذلك لتعب المسلمون تعبًا مفرطًا ولم يكونوا على يقين من النصرة عليه.
ومما يدل على هذا قصة محمد بن مسلمة في كعب بن الأشرف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لكعب بن الأشراف فإنه آذى الله ورسوله)؟ فقال محمد بن مسلمة: أتُحب أن أقتله؟ قال: (نعم). قال فأذن لي فأقول: قال: (قد فعلت) ذكر هذا التاج السبكي في (الأشباه والنظائر) له.
21- ومنها: ثبت في الحديث النهي عن التصوير؛ فلو دعت إلى ذلك ضرورة المسلمين كما روى الواقدي في (فتوح الشام) أن النصارى صوروا صورة هرقل على حائط فوقف بعض المسلمين متعجبا منها، فانقلبت قناة طويلة من أحدهم فأصابت عين الصورة فقلعتها، فعلم به الحرس من قبل لوقا عظيم الروم؛ فجهَّز رسوله في مئة فارس إلى أبي عبيدة: إنكم غدرتم الأمان بقلع عين هذه الصورة وهو عندنا عظيم، فسأل أبو عبيدة من فعل هذا؟ فقيل فلان خاطئا، فقال أبو عبيدة: إن صاحبنا إنما فعل ما فعل غير متعمد، فقالوا لا نرضى حتى نفقأ عين صاحبكم -يعنون عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وكان القوم يمتحنون بهذا أمان المسلمين وأنهم هل هم موفون بعهودهم؛ فقال أبو عبيدة أنا أمير هذه الطائفة فافعلوا بي ما فعلوه بتمثالكم؛ فقالوا: لا نرضى إلا بفقء عين ملككم الأكبر، فقال أبو عبيدة ملكنا أمنع من ذلك، وغضب المسلمون وكادت تقوم ملحمة عظيمة؛ فنهاهم أبو عبيدة وقال: على رسلكم، فقال منهم قائل: لا عين أميركم ولا عين خليفتكم؛ ولكن نصنع تمثالًا فيه صورة أبي عبيدة ثم نفقأ إحدى عيني ذلك التمثال.
فقال المسلمون: إن صاحبنا فقأ عين ذلك التمثال غير قاصد وأنتم تتعمدون، فقال أبو عبيدة: يا معشر المسلمين إن هؤلاء ليس لهم عقول، فإنهم رضوا أن يصوروا صورتي ويفعلوا بها ما أرادوا، فدعوهم وقلة عقولهم، فرضوا وسكنت الفتنة.
22- ومنها: مسألة حكم التكني بكنية أبي القاسم، وفيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: المنع مطلقا وهو مذهب الشافعي، حكاه عنه البيهقي والبغوي وأبو القاسم بن عساكر؛ لحديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) أخرجاه، ولهما عن أبي هريرة مثله.
والثاني: وهو مذهب مالك، واختيار النووي، إباحته مطلقا؛ لأن ذلك كان لمعنى في حال حياته زال بموته صلى الله عليه وسلم، وهو ما وقع في السير أن رجلا نادى: يا أبا القاسم، فالتفتَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لستُ أعنيك يا رسول الله، إنما أريد صاحبي، فقال عليه السلام: (تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي).
الثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمداً، ولا يجوز لمن اسمه محمد، لئلا يكون قد جمع بين اسمه وكنيته، وهذا اختيار أبي القاسم الرافعي.
23- ومنها: حكم ما تركه من مال، هل هو صدقة عامة للمسلمين، كما في الحديث: (لا نورث، ما تركناه صدقة)، وهو مذهب أهل السنة وشاهده عمله عليه السلام في فدك وخيبر كما هو معلوم من سيرته، وقد حكى اللكنوي في (طبقات الحنفية) أن القاضي أبا علي النسفي الحنفي اجتمع بالشريف أبي القاسم المرتضى مُقدَّم الشيعة، فجرى ذكر حديث (ما تركنا صدقة).
فقال الشريف: (صدقةً) بالنصب، و(ما) نافية، ولا يصح الرفع. يريد: أن الأنبياء يورثون، كما هو مذهب الإمامية، وأنه عليه السلام نفى أن يكون ماله صدقةً من بعده.
فقال القاضي: إذا جعلتَ (ما) نافيةً، خلا الحديث من فائدة، فإن كلَّ أحد لا يخفى عليه أن الميت يرثه أقرباؤه، ولا تكون تركتُه صدقةً، ولكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المسلمين بيّن ذلك، فقال: (ما تركنا صدقةٌ) بالرفع، فانقطع الشريف.
وقال الطوفيُّ في (الصعقة): (تضمَّن الحديثُ جملتين إثباتية ونفيية، وعلى ما تأولته الرافضة تكون الجملتان نافيتين، فيكون قد نفى الجهتين المشروعتين الميراث والصدقة، فالجهة الثالثة تكون تكون باطلةً عيناً، وهو على الرسول المعصوم محال، وإلا فعليهم إثباتـُها، على أن بـمجرد نفيه للإرث فاتـهم الغرض).
24- واحتج الموفق لقول الجمهور: إن الـمُحْصَر في الحج يجوز له أن يذبح هديه في الحل إن لم يقدر على أطراف الحرم، بأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، قال: (وهي من الحل باتفاق أهل السيرة والنقل) وهو قول مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد.
25- وذكر الماوردي أن للعلماء في فتح مكة: هل فتحت عنوة أو صلحا؟ قولان: فذهب الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة إلى أنه عليه السلام فتحها عنوة بالسيف ثم أمَّن أهلها، وذهب الشافعي ومجاهد إلى أنه فتحها صلحا بأمان عقده بشرط، فلما وجد الكف لزم الأمان والعقد الصلح.
وسبب الخلاف نَقْلُ السيرة، قال الماوردي: (والذي أراه على ما يقتضيه نقل هذه السيرة: أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد عنوة؛ لأنه قوتل فقاتل وقَتَل، وأعلى مكة دخله الزبير بن العوام صُلْحا؛ لأنهم كفُّوا والتزموا شرط أبي سفيان، فكفَّ عنهم الزبير ولم يقتل منهم أحداً، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر بمكة: التزم أمان من لم يقاتل، واستأنف أمان من قاتل؛ فلذلك استجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان من أهل مكة، فدخل عليها علي بن أبي طالب ليقتلهما؛ فمنعته وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: “قد أجَرْنا من أجَرْتِ يا أم هانئ”، ولو كان الأمان عاما: لم يحتاجا إلى ذلك، ولو لم يكن أمان: لكان كل الناس كذلك).
ثم أكد أنها فتحت صلحا بقصة أبي سفيان التي رواها أهل السيرة، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام أمن أبا سفيان ومن دخل داره بشروط معروفة في السيرة، قال الماوردي: (وهذا يخالف حكم العنوة؛ فدل على انعقاد الصلح وجود هذا الشرط؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمَّن أبا سفيان، وعقد معه أمان قريش على الشروط المقدمة، أنفذه إلى مكة مع العباس، ثم استدرك مَكْرَ أبي سفيان وأنفذ إلى العباس أن يستوقف أبا سفيان بمضيق الوادي ليرى جنود الله، فقال أبو سفيان: “أغدراً يا بني هاشم”؟! فقال له العباس: “بل أنت أغدر وأفجر، ولكن لترى جنود الله في إعزاز دينه ونصرة رسوله”، فلو كان دخوله عنوة لم يقل أبو سفيان: أغدراً، ولم يجعل استيقافه غدراً).
قال: (ويدل عليه أن راية الأنصار كانت مع سعد بن عبادة عند دخوله مكة، فقال سعد وهو يريد دخولها: “اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة”، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن الراية وسلمها إلى ابنه قيس بن سعد وقال: “اليوم يوم المرحمه، اليوم تُستر فيه الحرمه، اليوم يعز الله قريشا”، فجعله يوم مرحمة، وأنكر أن يكون يوم ملحمة، فدل على الصلح دون العنوة، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أمامه الزبير بن العوام، ومعه رايته وأمره أن يدخل مكة من كَدَاء العليا، وهي أعلى مكة، وفيها دار أبي سفيان، وأنفذ خالد بن الوليد ليدخل من اللِّيط، وهي أسفل مكة، وفيها دار حكيم بن حزام ووصاهما أن لا يقاتلا إلا من قاتلهما على ما قرره من الشرط مع أبي سفيان، فأما الزبير فلم يقاتله أحد، ودخل حتى غرس الراية بالحَجون، وأما خالد بن الوليد فإنه لقيه جمع من قريش وحلفائهم بني بكر، فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وقاتلوه؛ فقاتلهم حتى قتل من قريش أربعة وعشرين رجلا، ومن هذيل أربعة رجال، وولُّوا منهزمين، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم البارقة على رؤوس الجبال، قال: “ما هذا، وقد نهيت خالداً عن القتال”؟ فقيل له: إن خالداً قوتل فقاتل: فقال: “قضى الله خيرًا “، وأنفذ إليه أن يرفع السيف، وهذا من دلائل الصلح دون العنوة؛ لأنه لو كان عنوة لم يذكر القتال، ولم يَنْهَ عنه، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح حين سار لدخول مكة كان يسير مع أبي بكر وأسيد ابن حضير على ناقته لقصوى، وعليه عمامة سوداء، ولو دخلها محاربا لركب فرسا).
26- واحتج القدوري لمذهب الحنفية أن الخُمس ينقسم على ثلاثة أسهم؛ لليتامى والمساكين وابن السبيل، فمن كان من ذوي القربى بهذه الصفة: دخل من جملة المستحقين، خلافا للشافعي القائل بأن لهم خُمسا يستحقونه بالاسم، يستوي فيه فقيرهم وغنيهم، ويُقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين.
فاحتج القدوري: بـ (أن أهل السيرة اتفقوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الخُمس بهوازن ولم يدفع منه إلى هاشمي شيئا، ولو كان حقَّا لهم لم يجز أن يسقط حقهم)، قال: (ثم لا شبهة لمن نظر في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُسَوِّ بينهم قط، ولا أعطى الذكر منهم حظ الأنثيين؛ فدل على بطلان قولهم).
27- ومن فوائد السير للفقيه: تقويم الأخبار وتمييز صحة الآثار، كما في خبر إسقاط الجزية عن يهود خيبر، وقد ذكرناه مبسوطا في (الومضات) وبيَّنا الوجه في هذا المعنى.
وقد احتج لمذهب الحنفية في مسألة اختلاف الدارين: أنه إذا هاجر أحد الزوجين إلى دار الإسلام؛ مسلما أو ذميا، والآخر في دار الحرب على دينه، وقعت الفرقة باختلاف الدارين، وقال الشافعي: إن كان دخل بها؛ لم تقع الفرقة حتى تحيض ثلاث حيض، واحتج بما في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل مَرَّ الظهران حمل إليه العباس أبا سفيان فأسلم، وامرأته بمكة كافرة، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح.
وأجاب الحنفية بأن في السيرة أيضا: أن مر الظهران من توابع مكة ولم تكن فُتحت، فلم يصر هذا الموضع دار إسلام؛ فلم تختلف به الدار.
واحتج الشافعي: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أمَّن الناس جميعا إلا صفوان بن أمية، وعكرمة ابن أبي جهل، ففر صفوان إلى الطائف، وعكرمة إلى الساحل، وأسلمت زوجتاهما، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وكذلك حكيم بن حزام، أسلم قبل إسلام امرأته، وأقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح، وكذا سهيل بن عمرو.
فأجاب الحنفية بأن الواقدي ذكر أن صفوان بن أمية هرب إلى السفينة، فأتبعه عمير بن وهب، وردَّه منها، والشعب مرفأ السفن لأهل مكة، ومنها ركب المسلمون في الهجرة إلى الحبشة، ومنها أخذت قريش السقيفة التي سقف بها الكعبة، وهذا الموضع من مواضع مكة وفي حكمها؛ فلم يختلف به وبزوجته دار.
وأما عكرمة بن أبي جهل: فإن زوجته أم حكيم بنت الحارث قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح: إن عكرمة هرب منك، فلو أمَّنته، فأخذت له الأمان وخرجت خلفه، فأدركته وقد ركب السفينة فأومأت إليه، فهذا لا يعلم أن الموضع الذي صار إليه دار كفر؛ لأنه لما ركب قال لهم صاحب السفينة: أخلصوا، قال: كيف نخلص، قال: قولوا: لا إله إلا الله، قال عكرمة: فعلى هذا فارقت محمدا؟! فدل على أن هذا الموضع دار إسلام، وأما حكيم بن حزام: فقال الواقدي إنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، لم يبرح حكيم بن حزام من مكة حتى أسلم، وشهد معه حُنينا، وأما سهيل بن عمرو: فقال الواقدي: اختبأ بمكة، حتى استأمن له ابنه عبد الله وقد كان شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط احتجاجهم بالسير.
واحتج الشافعي بما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، فدل على أن اختلاف الدار لا يوجب الفرقة، فدفعه الحنفية بأن أهل السيرة نقلوا أن ردَّها كان قبل نزول آية الفرائض بشهور، كما قال الزهري: ردَّها قبل نزول آية الفرائض.
28- واحتج الشافعية لقولهم إن المرتدة تُقتل بحديث جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فأمر صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام؛ فإن أسلمت وإلا قُتلت، فتعقبهم الحنفية بأن في مغازي الواقدي وسيرة ابن هشام أن هذه المرأة هي عصماء بنت مروان اليهودية كانت من جملة المعاهدين؛ فنقضت العهد عام بدر وحرضت على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله، وقالت في أبيات لها:
بِاسْتِ بني مالكٍ والنَّبِيتِ…وعوفٍ وباسْتِ بني الخزرجِ
أَطعتمْ أتاوِيَّ من غيركمْ ….. فلا من مرادٍ ولا مَذْحِجِ
ترجُّونَهُ بعد قَتْلِ الرؤوسِ …. كما يُرْتَجَى مَرَقُ الـمُنْضَجِ
ألا أنِفٌ يبتغي غِرَّةُ …….. فيَقْطَعُ من أملِ الـمُرْتَجِي
29- وقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا زادت البقر على أربعين؛ ففي الزيادة حسابها، وروى الحسن بن زياد عنه: أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين، وروى أسد بن عمرو عنه: أنه لا شيء في الزيادة إلى ستين، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، واحتجوا بما روى الحكم عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، فسئل عن الأوقاص؟ فقال: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بشيء، وسأسأله إذا لقيته، فقدم معاذا على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فقال: لا شيء فيها.
ودفعه القدوري بأن أهل السير اتفقوا على أن معاذاً لم يرجع إلى المدينة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أهل السير إذا اتفقوا على نَقْل شيء لم يُلتفت إلى من يخالفهم).
وهذا المعنى قرَّره أهل الأصول كالقرافي والطوفي وأن اتفاق أهل كل فَنٍّ على قول في مسألة من فَنِّهم حجة ومرجح على قول غيرهم، وبما مر يعلم مبلغ أهمية السير والتاريخ والأخبار للفقهاء والأصوليين في استنباط الأحكام وانتزاع الأصول.
30- ونظير أخذ الأحكام من السير والتاريخ النبوي: أخذه من الأخبار المغيبة كالملاحم والفتن، وقد حكى الزركشي فيه قولان، وانبنى على الجواز بعض الأحكام، فمما اشتهر مسألة تقدير وقوت الصلاة في الأقاليم التي لا تظهر فيها الشمس إلا كل ستة أشهر ونحو ذلك، وقد أخذ من حديث الدجال المشهور، وبسطنا الكلام على هذه المسألة في (الأحكام المخرَّجة على قوانين الفيزياء).
ونظيرها: مسألة حكم خروج سابق الحاج؛ الـمُبشِّر عنهم بسلامتهم، ووقت خروجه، هل هو يوم العيد أو بعد مضي أيام التشريق؟ أصله حديث خروج الدابة من علامات الساعة، فالقائل إنه بعد مضي أيام التشريق يأخذه مما أخرجه الخطيب البغدادي في كتابه (تالي التلخيص) عن ابن عمر قال: (تخرج الدابة من جبل أجياد في أيام التشريق والناس بمنى)، قال السيوطي: فلذلك جاء سابق الحاج يخبر بسلامة الناس.
قال الحطاب في (المواهب): (هذا أصل قدوم المبشر عن الحاج، وفيه بيان السبب في ذلك، وأنه كان من زمن عمر بن الخطاب، إلا أن المبشِّر الآن يخرج من مكة يوم العيد، وحقُّه أنْ لا يخرج إلا بعد أيام التشريق).
ثم بين وجه القول الثاني والذي عليه عمل الناس في زمانه من خروج المبشِّر في العيد، بأن أصله ما رواه ابن مردويه من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أبي أسيد أراه رفعه، قال: (تخرج الدابة من أعظم المساجد حُرمة؛ فبينما هم قعود تربوا الأرض؛ فبينما هم كذلك إذ تصعَّدت).
قال ابن عيينة: تخرج حين يسري الإمام من جَمْع، وإنما جُعل سابق الحاج ليخبر الناس أن الدابة لم تخرج؛ فهذه الرواية تقتضي أن خروج المبشر يوم العيد واقع موقعه.
وفيما ذكرناه مقنع وغنية يستدل به على تقرير ذلك، فلا نطول باستقصاء الأمثلة؛ فإنها بحاجة إلى تصنيف مفرد ينتدب إليه بعض أهل العناية والتحصيل، ولو كان في رسالة جامعية كان حسنا، فإن في هذا المعنى من الفوائد: تكثير الأصول، والتيسير على الناس في أحكامهم، واتساع طرق النظر، وسد باب التشديد والتعسير والعنت الذي فتحه النابتة على الناس لجهلهم بأصول الأحكام ومآخذ الأئمة في الأصول، فضيقوا على الناس الشرائع من حيث وسعها الله عليهم ورفع الحرج عنهم، فالعناية به من المهمات، وبالله تعالى التوفيق.
آخره
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين
وكتب
بلال فيصل البحر
إسطنبول/الفاتح/1444 هـ