التمذهب بين الرفض والتعصب – أ.عبد الله قدوس
[cl-popup title=”ترجمة الكاتب” btn_label=”ترجمة الكاتب” align=”center” size=”s” paddings=”” animation=”fadeIn”]الأستاذ عبد الله قدوس
الليسانس في أصول الفقه- الخروبة
ماجستير في الدراسات الإسلامية-كلية الإمام الأوزاعي[/cl-popup]
إن من نعم الله تعلى على آخر هذه الأمة أن قيّض لها علماء ربانيين في أولها، فكانوا جسورا متينة يمر عليها حبل الدين وفقه الشريعة، ليتركوه لنا محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، في حين حُرِم ذلك أهل الملل السابقة، فقد كان البلاء في علمائهم وهلاك دينهم على أيديهم، فَحُقَّ علينا ولاؤهم ومحبتهم والترضي عنهم واتباع سبيلهم، كما قال ابن تيمية رحمه الله في رسالته الرائعة: رفع الملام: “فيجب على المسلمين -بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم- موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن. خصوصا العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. إذ كل أمة -قبل مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- فعلماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته، والمُحْيُون لما مات من سنته. بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا.
وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة -المقبولين عند الأمة قبولا عاما- يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته؛ دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه”(1).
فخلف من بعده خلفٌ ذهبوا عن هذا الوسط يمنة ويسرة، وهكذا غالبا ما يضيع الحق بين الغالي فيه والجافي عنه، وهو وسط بين طرفي الأمر المذمومَين، ودَيْدَنُ العدول من علماء الأمة أنهم ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ومن ذلك مواقف الناس من المذاهب الفقهية المعتبرة.
فليت بعض الناس يُفرِّقون بين التمذهب والتعصب للمذهب، فإن كان لا بد وأن يتمذهبوا فليس لهم أن يتعصبوا..
وفي المقابل ليت آخرون يُفرقون بين التحرر من التقليد وبين الزهد في المذاهب وأشياخها الأقدمين وتراثهم الثمين!!
ذلك أن التمذهب يعني اتّباع المذهب المعتبر كأحد المذاهب الأربعة مثلا، ويمشي على قواعده وأصوله الفقهية ويؤصل لفروعه، ليمشي بها في العامة والخاصة- ما دام يعتقد أنها صواب في تلك المسائل-، ويجعل المحك فيها موافقتها للدليل الشرعي أو التعليل العقلي حين يُفتقد دليل النص… فإذا لاح له الدليل المخالف للمذهب اتبع الحق الذي نطق به الدليل، كما كان ذلك دَيْدَن هؤلاء الأئمة المتبوعين أصحاب المذاهب أنفسهم، فهو في ذلك أيضًا متبعٌ لمذهبهم القائم أساسا على الدليل، والداعي إلى تحكيمه، وهم الذين جاءنا من أقوالهم مصابيح يُستنار بها في هذا المسلك بين التمذهب والتعصب.. لأن هؤلاء العلماء الأجلاء ما أنشأوا مذاهبَ ليأتوا للناس بدينِ أحبار أو رهبان، أو تُتبع من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ليقيموا لهم أصناما تُعبد من دون الله سبحانه.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: “وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذمّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة”(2).
وقال الصنعاني رحمه الله: “وأما الأئمة الأربعة؛ فإن كلاً منهم مصرح بأنه لا يقدم قوله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم”(3). وقال أبو شامة: “وذلك الظن بجميع الأئمة”(4).
وهذه بعض أقوالهم في صريحة:
قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله: “لا يحلُّ لمن يفتى من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت”(5).
وهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله يقول: “إنما أنا بشر أخطئ وأصيب؛ فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة؛ فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة؛ فاتركوه”(6). ويقول: “ليس من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم”(7).
وهذا الإمام الشافعي –وهو تلميذ الإمام مالك- يقول: “إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا بها، ودعوا ما قلته”(8)، ويقول: ” كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي”(9).
وهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول: “لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا”(10).
وأقوالهم هذه لا تقول اتركوا أقوالنا رأسا أو أقوال العلماء كما يحلوا للبعض أن يفهم، وإنما قصدهم أن قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقدّم على قول أي أحد كائنًا من كان، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الحجرات:1]. بل إن هذا الأمر يدخل في التحاكم إلى الله إلى رسوله، كما نطق به القرآن أيضًا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:59] وكما في قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]. وهذا من ناحية توطين النفس على التحاكم إلى شريعة الله تعالى متى ما ظهر للمسلم مرادها، فهو من ناحية الاعتقاد والإذعان يلزم الناسَ جميعًا، عالمَهم وجاهلَهم، لأنه عقيدة وعبودية، ويجب على المفتين جميعًا أن يُعَلِّموا الناس هذا وأن يُربوهم عليه، حتى في إفتائهم بالتقليد يجب تلقين الأتباع والمُقلِّدين أن اتِّباع هذا المذهب في أي مسألة تقليدًا، إنما هو لظنهم أنه دلهم على حكم الله تعالى، لا لأن هذا مذهب الشيخ المطاع! وأن هذه هي شريعتهم إذْ لا يعلمون الوصول إلى الحق بالعلم والاجتهاد، كما أمر اللهُ تعالى بذلك: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل:43، والأنبياء:7].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وإذا كان الرجل متبعاً لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد: ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه، ولا عدالته بلا نزاع؛ بل هذا أولى بالحق، وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين، غير النبي صلى الله عليه وسلم، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المُعَيَّن هو الصواب الذي ينبغي اتّباعه، دون قول الإمام الذي خالفه….
وأما أن يقول قائل: إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان؛ فهذا لا يقوله مسلم. ومن كان موالياً للأئمة محبّاً لهم يقلد كل واحداً منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، بل هذا أحسن حالاً من غيره، ولا يقال لمثل هذا مذبذب على وجه الذَّمِّ”(11).
وها أنت ترى المفسرين والفقهاء والمحدثين يقال عنهم: ابن حجر الشافعي وابن العربي المالكي وأبو يوسف الحنفي وابن قدامة الحنبلي.. وفي فنون العلم كلها، وما ضرّ ذلك فقها ولا فقهاء، أيكون علماء اليوم- فضلا عن الأتباع- أعلم منهم وأورع؟! كلا.
ومن المضحكات المبكيات أني دخلت في نقاش حول هذه المسألة مع أحد المتعصبين لعالم معاصر مشهور يدعو لمحاربة المذهبية، فكانت حجته على تعصبه لهذا العالم أن قال لي: إن هذا العالم أفضل من الأئمة الأربعة.. لأنه يكون جمع علمهم إلى علمه، فيكون أعلم!! فقلت: لا يُدرى هل اطلع على كل علمهم أصلا، ثم هل فهم وأدرك ما وصل إليه من علم فضلا عما تزعم!
التعصب للمذهب
أما التعصب المذهبي فهو الأخذ بالمذهب لا لأن المذهب صحيح في نفس الأمر، ولا لأن القائل به مقلِّدٌ صرف لا يسعه إلا ذلك، وإنما لعصبية جاهلية ولو كانت لمذهب فقهي معروف ومعترف به.. ومن جرائره أن المتعصب يقع في أمور خطيرة تتمثل في رد الشرع لمجرد مخالفته لموروثه المذهبي، وقد يقع في قلبه زيغ بسبب ذلك فيهلك كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وكما قال الإمام أحمد: “أتدري ما الفتنة؟.الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك”.
وإنك لواجد على لسان رأس كل مذهب قولا معناه أن الدليل مذهبي والشريعة مطلبي، وإنما – في الغالب- خالفوا أو اختلفوا لأسباب الخلاف المعروف، كعدم بلوغ الدليل أو عدم بلوغ ما ينسخه أو يقيده، أو احتمال في دلالته، مثل التي كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته: “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” وأنعِم بها.
إن كلا طرفي الأمر مذموم، سواء الطرف الذي وقع فيه المتعصبون للمذاهب، أو الطرف النقيض الذي وقع فيه المتمردون على المذاهب بحجة محاربة المذهبية الفقهية، وإن جناية المتمردين على المذاهب لا تقل أحيانا عن خطر وضرر التعصب للمذهب، ذلك أنه نبتت في آخر زماننا هذا نابتةٌ ترفض الرجوع للمذاهب والنهل من علومهم، وأطلقوا أيديهم من حبالها المتينة، حتى زهّدوا الناس في تراث السلف الفقهي الرصين الوثيق البريء من تُهَم الولاءات الحزبية والضغوطات السلطوية والأغراض النفسية وبيع الدّين بعرض من الدنيا قليل، كما يحدث لكثيرين من مُفتي هذا الزمان!
إن التمرد على المذاهب حتى مع سعة الاطلاع ورسوخ العلم يجر ويلات كثيرة وطوام عظيمة، منها بلبلة الفتوى وتشتيت الناس فوق ما هم مشتتين، ونحن نرى أناسًا رفضوا المذاهب بحجة محاربة المذهبية- التي لم يحاربها أحد من علماء المسلمين في تاريخ المسلمين- فإذا هم يُحَصِّلون في الواقع مذهبا جديدا يتعصبون له هو نفسه مذهب ذلك الشيخ الذي تعصبوا له وتمذهبوا بفتاويه التي ديدنها التنفير من التمذهب، فخلّطت بين مجموعة مذاهب أو تمردت على المذاهب كلها، حتى جاءت بشذوذات فقهية ومخالفات لإجماعات المسلمين، فضلا عن مخالفات جمهورهم بحجج واهية وأدلة ضعيفة سندا أو دلالة، أو أبعد ما تكون من تحقيق مقاصد الإسلام وشريعته الغراء..
وما تولد عنه عند طائفة من الشباب هو احتقار العلماء والتعالي على علوم المذاهب واستسهال التفقه، في حين أن بعض الفتاوى التي يجدها في متناوله على صفحات الكتب يكون قد سهر العلماء الأقدمون من أجل تحريرها الليالي ذوات العدد وصلّوا من أجلها الركعات ولهجوا بالدعوات حتى يلهمهم الله فيها بالصواب، فيظن بعض الطلاب أنها معجونة فقط في قصعة عجين؛ فيفتح هو مخبزة الفتوى وينوع فيها كما يشاء؛ لا يبالي إن هلك أو أهلَك!
وقد نبتت على إثر ذلك نابتة أجْرت التمرد عن أصول التفقه أيضًا على مناهج الحركة ونوازل الوقائع، والتمرد على علماء معاصرين ربانيين، لأن باب الاجتهاد، لم يُفتح فحسب، بل كُسِّر! حتى صار الشاب اليافع الحدث يفتي في أمر العامة، ويزج بها في أتون الفتن، وفي ما لا تحتمله طاقتها حتى لو كان ما يدعو إليه صحيحا من حيث التنظير. وقد ناقشت أحدا منهم يوما يريد أن يقوم بعمل أُراه خطأ وخطرًا.. والعجيب أنه كان يستدل له بالقرآن، فقلت: ما هكذا يؤخذ بالقرآن، أقرأت تفسير هذه، أقرأت تفسير هذه، أتأمّلت في مآلها؟!
فكان يقول جازما: القرآن واضح لا يحتاج إلى تفسير، ومآلها أني أطبّق القرآن!!..
وهذه ليست خاصة بهذا الشخص ولا في هذا المجال.. بل هناك قِطاع كبير على هذه الشاكلة، وكان مبدأ الأمر أنهم تربوا على أيدي أو على فتاوى بعض الشيوخ الذين يحاربون المذهبية- بزعمهم- فلم يحسنوا؛ فوقعوا في تزهيد الشباب في علماء السلف من المذاهب الفقهية، وتجريئتهم على العلماء، فما لبث هؤلاء الشباب أن تمردوا حتى على شيوخهم هؤلاء – كالجزاء الوفاق-، ثم انسحب الأمر على الكثير فعم وطمّ وصارت آفة ظاهرة ضارة!
وحتى لطلاب العلم الذين يريدون التفقه في الدين والتّرقِّي فيه، يحسن بهم التفقه على مذهب ينطلقون منه كأصل، يجمعون به مسائل الفقه ويرتبونها ويتدرجون به في مدارجه، خاصة في بداية طلبهم حيث لا قدرة لهم على التحقيق والترجيح، فإذا اشتد عودهم وقامت سوق التمييز عندهم فحُقّ لهم أن يتخيّروا لدينهم ما وافق الدليل، خافقة قلوبهم ولاهجة ألسنتهم بحمد الله تعالى وبالترحم على أولئك الذين رسموا لهم طريق التفقه في الدين، من باب شكر الله وشكر الناس وبِرًّا بآباء العلم.
ثم إن بعض الشباب فتن الأمة والعامة بخروجه عن موروث قومه الفقهي في التَّسنن بأمور متأثرا بفتاوى لشيوخ تأثر بهم أو تعلق بهم أو حتى تعصب لهم، وأقام معارك في قومه بحجة نشر السنة، وفي كثير من الأحيان لو ترجع تجد أولئك العامة هم الأسعد بالصواب مما يدعوهم إليه هو، لأن إمامهم الأول كان على صواب، حتى وإن كانوا هم مقلدة.
ومثال لذلك إصرار بعض الشباب على تحية المسجد في أوقات النهي، بل وحمل الناس على ذلك، وأذكر أنه في حدود سنة 2002 أظن، دخل شاب يصلي في وقت النهي فقام إليه الإمام وهو شيخ سبعيني قائلا لهذا الشاب: اجلس يا حمار!! هكذا.. ودعك من هذا الشيخ.
ولكن الشاب عندما تطالبه بالدليل الحامل له على ذلك، يقول لك: صلاة ذات سبب! في حين أن عبارة “صلاة ذات سبب” هي على الأكثر قولة للشافعي أو وجها للجمع بين الأدلة، وليست حجة شرعية.
وحين ترجع تناقش المسالة وتؤصلها ربما ترجح لديك قول جماهير العلماء من أن النفل لا يجوز في أوقات النهي، وأن تحية المسجد أصلا سنة وليست واجب، أما التلطف للناس ودعوتهم للتوحيد والإيمان صحيح واجب، فيضحون بالواجب من أجل سنة(12).
ولو أن كثيرا من العلماء في تفقيههم للناس استحضروا واقع الأمة، ولم يكونوا إقليميين في تعليمهم، وعلموا أن مشكلة الأمة الآن أكثر من أن نحملها على رأي واحد حيث لا سلطان قاضٍ، وأن بُعد العامة عن هذا الأمر وجرهم إليه جرًّا قد ينفر العامة من الخاصة ويبني بينهم جدار شك ونفرة، فإن ذلك كثيرا ما كان يُستخدم للتنفير من شباب الدعوة بتكبير هذه الخلافات والنفخ فيها، واستفاد منه حتى أعداء الدين الذين لا يدخرون جهدا ولا يضيعون فرصة في تشتيت الأمة وتحزيبها أحزابا وتشييعها شِيَعًا، حتى إن الأمر صار كما قال صدِّيق حسن خان” في اختلاف المذاهب في مسألة وضع اليُمنى على اليُسرى: وفي “حاشية الشِّفاء”: ومن الغرائب أنَّها صارَتْ في هذه الدِّيار، وفي هذه الأعصار عند العامَّة ومَن يُشابههم ممن يظنُّ أنه قد ارتفع عن طبقتهم من أعظم المنكرات، حتَّى إن المتمسِّك بها يصير في اعتقاد كثيرٍ في عداد الخارجين عن الدِّين! فترى الأخَ يُعادي أخاه، والوالد يفارق ولده إذا رآه يفعل واحدةً منها – أيْ: مِن هذه السُّنن – وكأنَّه صار متمسكًا بدِين آخَر، ومنتقلاً إلى شريعة غير الشريعة التي كان عليها، ولو رآه يزني، أو يشرب الخمر، أو يقتل النَّفس، أو يعقُّ أحد أبويه، أو يشهد الزُّور، أو يحلف الفجور، لم يَجْرِ بينه وبينه من العداوة ما يجري بينه وبينه بسبب التمسُّك بهذه السنن أو ببعضها! لا جرمَ هذه علامات آخر الزَّمان، ودلائل حضور القيامة، وقرب السَّاعة؛ اهـ.(13).
إن اختلاف الناس في مفهوم التمذهب أو التعصب له، وضرورة اعتماد المذاهب دون التعصب لها في غياب الموسوعية الفقهية في الأشخاص أو الهيئات، وغياب السلطان الشرعي الذي يرفع حكمُه الخلافَ، لا بد من علاج لهذه الآفة، وردِّ طرفيها إلى وسط الاعتدال!
هوامش
1- ابن تيمة، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، 8- 9.
2- ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، 2/ 139
3- الأمير النعاني، إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، 141.
4- أبو شامة شهاب الدين، مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول، 61.
5- أبو عمر بن عبد البر، الانتقاء في فضائل الثلاثة، 145
6- ابن عبدالبر، جامع بيان العلم وفضله، 1/ 775.
7- المرجع السابق، 1/ 925
8- تقي الدين السبكي، معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.87
9- المرجع السابق: 87
10- ابن القيم في الإعلام (2 /302)
11- ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 22/ 248.
12- لي فيها بحث مطوّل بعنوان: “القول المختار في حكم الصلاة طرفي النهار”
13- حسن صديق خان، الروضة النديَّة، 1/ 93.
جزاكم الله خير الجزاء مقال هام للغاية وياليت قومي يعلمون
أول سؤال واجهني في المهجر هل أنت حنفية ام لا؟؟
فإن لم تكن حنفي مثلهم فيا ويلك وظلام ليلك والله المستعان
الكثير من العبارات التي سأحتفظ بها واحفظها …
احسن الله إليكم، ويسر أمركم، وهدانا وإياكم والمسلمين إلى وسطية افسلام وسعته