التعارف الإنساني ودلالاته النقدية والأخلاقية
التعارف الإنساني ودلالاته النقدية والأخلاقية
د إسماعيل الحسني
المقصد من تلاقي البشر جميعا في هذه الدنيا هو تحقيق ما سماه القرآن الكريم بالتعارف… لا نقصد بالتعارف معناه السطحي، وإنما نقصد به الانفتاح المستمر والواعي الذي يحفزنا جميعاً على التفكير النقدي والمعالجة الجادة لإشكالات المفاسد في وقتنا الراهن: مفاسد الجهل والعنف والمجاعات وسوء توزيع الثروات وتلوث البيئات والطغيان… لما كان التعارف انفتاحاً واعيا على ما عند الآخرين من مكاسب كان إمكانية من الإمكانيات التي تسهم في تحقيق تكامل الطاقات من أجل تحقيق الصلاح المنشود… نحن نركز على التعارف الإنساني باعتباره معرفة علمية، عملية، وباعتباره أيضا معرفة مستأنفة لا بد للإنسان العارف بها أن يلتزم مبادئها الأخلاقية وتقنياتها العملية.
يبدو، انطلاقا من طرحنا، أن لمقصد التعارف دلالات نقدية وأخلاقية تجعله بمثابة البنية التفاعلية التي يتعاضد على تكوينها أكثر من طرف بشري، فمن شأن هذه البنية أن تفضي بأصحابها إلى وعي كل واحد منهم بما يقتضيه تميز بعض الناس عن بعض. وإن من أبرز ما يعضد هذا الفهم المعرفي، الأخلاقي، لمقصد التعارف ورود قراءتان للفظة «لتعارفوا» في آية سورة الحجرات: الأولى قراءة الأعمش وهي «لتتعارفوا»، والثانية قراءة ابن عباس وهي « لتعرفوا أن» على وزن تفعلوا بكسر العين وفتح الألف من «أن» و بإعمال «لتعرفوا» فيها .
إذا سلمنا بأن الاختلاف أمر واقع ما له من دافع؛ إذ لا يمكن لأحد أن ينحيه من حياتنا البشرية لأنه آية من الآيات الإلهية، لقوله تعالى: «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين»، إذا سلمنا بذلك، اكتنز مقصد التعارف جملة من الدلالات، منها: الدلالة النقدية التي تجعل من التدافع البشري تدافعا سلميا تتلاقح في صرحه الأفكار والأفهام..، يكفي أن نستحضر في هذا المضمار أن التعارف من عَرَف الذي هو بمعنى علم بالشيء، والعرفان كما في لسان العرب هو العلم الذي ألح القرآن الكريم والبيان النبوي على طلبه والثناء على صاحبه، قال تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» ولا يكون العلم بدون قدرة نقدية تقدر صاحبها على التمييز، لقوله تعالى: « الذين يستمعون القول فيتبعون أحسن». وهكذا، فإن معرفة أعضاء النوع البشري بعضهم ببعض طريق أساس من طرق التعارف الذي به يكون التفتح والفهم والتفهم. أما المعرفة التي يروم صاحبها معرفة ذاته دون معرفة غيره فهي طريق من طرق التناكر، الذي به يكون التناكر من جهلٍ وانغلاقٍ وتقوْقُع، قد يُفضي إلى التدابر والتحارب والتقاتل.
بالإضافة إلى الدلالات النقدية، يكتنز مقصد التعارف جملة من الدلالات الأخلاقية، منها: التدافع من أجل الدخول في السلم، وهو ما جاء واضحا في الآيتين: الأولى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» ، والثانية قوله جل وعلا: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم». الأجدر بنا أن نجتهد في تطبيق هذه الدلالة في زماننا كما طبقها عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية مثلا، في زمانه.
ومنها أيضا الانتهاء عن الاتصاف باللمز والغيبة والسخرية وعن غيرها من الأخلاق التي تفضي إلى التناكر لا إلى التعارف. ومنها أيضا الحرص على التعايش مع المخالفين والرحمة بهم والتودد إليهم والبر بهم والقسط لهم والتسامح معهم ما داموا غير معتدين علينا لقوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».
ومنها التعاون مع المخالفين لنا في كل ما يهم استدامة الصلاح الأرضي، لأن ذلك لا يكون بالتدافع الحربي الذي قد يفضي إلى إفناء البشرية … فكما أمرنا في الإسلام بالتعاون على أنواع «البر والتقوى» نهينا عن أنواع أخرى من التعاون على «الإثم والعدوان» لقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان»…
والحاصل أن التعارف، باعتباره معرفة علمية تفاعلية، ينجزها أكثر من طرف بشري عن نفسه وعن غيره، وهذا هو ما يفسر كون البشر إخوة، إن لم يكونوا إخوة في العقيدة وفي المذهب، وفي الوطن، هم إخوة في الانتماء إلى الأصل الواحد كما في خطبة حجة الوداع: «كلكم لآدم وآدم من تراب». يجب، انطلاقا من مراعاة مقصد التعارف، أن يسود بين البشر الصلح والتصالح بينهم فيتدافعوا إلى ذلك تدافعا سلميا، خاليا عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب والتجسس والظن بالسوء والغيبة. هذا مطلوب مقاصدي ينبغي أن يحدد سير كعبة المجموع البشري، ولا يتناقض في الوقت نفسه مع ما عليه واقع التدافع البشري، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، كما قال علماء الاجتماع، ولابد أن يفرز اجتماعه بغيره من البشر خلافا في الأهواء والرغبات المعنوية، وتعارضا في المصالح والمنافع المادية؛ فالنفس البشرية مفطورة على غرائز متقابلة من الإيثار والأثرة، ومن الأنانية والتواضع، وغيرها من الغرائز المتضادة والمتناقضة، كما أن العقل الإنساني مفطور على قابلية بناء الإدراكات المتقابلة، من العلم والجهل ومن الذكاء والغباء، وغيرها من التعقلات المتناقضة. كلها متناقضات تنتج تنافسا على نيل المطالب والرغائب، وتولد أيضا تقارعا في الآراء والأفكار والمذاهب، وتنتج ثالثا تصارعا في المصالح والأهواء، ومن ثم نفهم اختلاف الناس في قوله تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربكَ».