التدبر القرآني عند رقية العلواني-هناء مهداوي وأمينة خرف الله-الجزائر-
التدبر القرآني عند رقية العلواني
تعتبر رقية العلواني من أهم الشخصيات الإسلامية الدعوية النسائية المعاصرة التي برزت في مجال تدبر القرآن الكريم، والمبدعين في هذا التخصص الفتي.
تنحدر من بلدة الفلوجة بالعراق، وهي من مواليد 1966 م، وقد نشأت في بيئة علم وأخلاق، في حضن أسرة متدينة، فاستفادت من أبيها وأجدادها أيما استفادة، كان لها الأثر البالغ في تكوينها العلمي بعد ذلك.
وقد ارتبطت بالقرآن الكريم منذ صغرها، إلى أن صار ديدنها في كبرها، ارتهنت به دراساتها وظهر ذلك جليا في كتاباتها ومجالسها، وهي الآن تشغل منصب أستاذ دكتور في الدراسات الإسلامية في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة البحرين.
وقد آن الأوان لإماطة اللثام عن جهود رقية طه جابر العلواني وأمثالها من الدراسات القرآنية التجديدية الحديثة في مجال الدعوة عامة وفي مجال تدبر القرآن الكريم خاصة.
فكان الإشكال المطروح في مذكرتنا المكملة لنيل درجة الماستر في العلوم الإسلامية، تخصص تفسير وعلوم القرآن بكلية العلوم الإسلامية جامعة باتنة 1، وبإشراف الأستاذة الدكتورة نورة بن حسن حول شخصية رقية من جهة، وعن موضوع التدبر، والمنهجية المتبعة في كتاباتها ومجالسها من جهة أخرى، فرغم أن رقية بدت غنية عن التعريف، إلا أن استكشاف بيئتها التي نشأت وترعرعت فيها أعطى لمحة سريعة عن تكوينها العلمي وتوجهاتها الدعوية ناهيك وقد نهلت من علوم شيوخ وقامات علمية هامة، وهذا ما جعلنا نتحفز إلى استكشاف منهجها، وما يرتكز عليه من حيث المرامي والأهداف والخصائص المنهجية، والأسرار الفنية الاحترافية التي أعطت مجالسها وكتاباتها انطباعا حسنا في أوساط متابعيها، فاكتست طابعا تجديديا وإبداعيا، نالت به عدة جوائز.
ولم تكن مذكرة الماستر هذه بالتي تفي الدكتورة حقها، ناهيك وقد قُيدت في عدد صفحاتها، ومباحثها، فرغبنا أن تكون بمثابة تعريف عام برقية العلواني وبعملية التدبر وبعض الملامح المنهجية التي تكون نبراسا للباحثين في دراسات أخرى أشمل وأعمق.
فبعد التعريف برقية العلواني آثرنا أن نتحدث عن موضوع التدبر، الذي يختلف عن التفسير في جملة من النقاط أهمها:
أن المفسر يبحث في معاني ودلالات الألفاظ، الآيات والسور؛ بينما يغوص المتدبر في أعماق الألفاظ، الآيات والسور، للوصول إلى مقاصدها وغاياتها التي قد لا يتناولها جل المفسرين، ويصل إلى آفاق إيمانية، تجعله يلتزم بمخرجات العملية التدبرية.
فمن شأن التدبر إحداث ثورة تغييرية في الأفراد والمجتمعات، فهو البلسم الشافي للعلل والأسقام التي طالما زعزعت الشعوب ونخرت كيان الأمة الإسلامية أفرادا وجماعات، بهيئاتها ومؤسساتها، بسبب إعراضها عن القرآن الكريم تدبرا وتحكيما، فأصيبت – على حد تعبير رقية العلواني- بالأمية العقلية.
فإذا كان التفسير مجالا للعلماء والباحثين، فإن التدبر متاح للناس أجمعين، بحكم التيسير الإلهي للذكر الحكيم، في قوله تعالى: ((ولقد يسرنا القرآن للذكر)) القمر 17، إلا أن التفسير يعتبر من أهم العوامل المساعدة في عملية التدبر، لما يتجلى للمتدبر المطلع على التفسير من معان وحكم ومواعظ قد تخفى على غيره من المتدبرين.
وقد تطلق بعض الألفاظ المختلفة في ظاهرها عن التدبر، كالتفكر، التأمل والاستنباط، إلا أن هذه الألفاظ يجري استعمالها في الواقع بنفس معنى التدبر.
وللتدبر ثمرات تختلف باختلاف الشروط المنوطة به، كحضور قلب المتدبر، وخلو ذهنه من الشواغل الحسية والمعنوية، حسن الاستماع والإصغاء للقرآن الكريم، وحسن تلاوته، إلا أن شرطيتها لا تكون إلا في إظهار التفاوت بين منازل المتدبرين في جني ثمرات التدبر وتحقيق أسمى غاياته.
أما عن منهج رقية العلواني فقد استقيناه من مجمل إصداراتها المكتوبة وحلقاتها السمعية والبصرية، بتفريغ جزء منها، وكفاها فضلا أننا لم نستطع تفريغ ولا حتى متابعة أكثر حلقاتها لغزارتها، فهي تحتاج إلى وقت ليس بالقليل، وإن حضور جلسات أو حلقات من حلقاتها ليوازي قراءة أسفار بأكملها، لا نقصد تحصيلا علميا فحسب؛ بل تغذية قلبية إيمانية وعقلية منقطعة النظير.
والحق أن رقية العلواني لم تفصح عن منهج أو تصرح به في مقدمة كتاب أو حلقة كما عند كثير من المفسرين، وجل ما ذكرته أنها تسعى إلى تدبر كتاب الله تعالى وتفعيل عملية التدبر في أوساط الأمة، إلا أن المتتبع لحلقاتها الشفاهية وكتاباتها يلحظ تناغما منهجيا في عرضها لخواطرها التدبرية وتتراءى لديه الملامح المنهجية المتبعة في شتى نشاطاتها وبرامجها، وكأنها لبِنات يخدم بعضها بعضا لاستكمال البناء الشامخ، ألا وهو المنهج التدبري في قالبه الجديد والمتجدد.
ويمكن تناول منهج رقية من حيث المرامي والأهداف من جهة ومن الناحية الفنية والتطبيقية من جهة ثانية.
- من حيث المرامي والأهداف: تعتمد رقية العلواني في منهجها على مبدأ محاربة الظواهر السلبية المعيقة لعملية التدبر، ثم طرح البدائل الشرعية والمنطقية لتفعيل عملية التدبر.
أولا: محاربة الظواهر السلبية التي تعيق عملية التدبر: وأهم تلك الظواهر:
- اتباع مغريات الحياة، وانشغال الفرد المسلم ذهنيا وعقليا وفكريا وعاطفيا بأمور لا تتجاوز متطلباته المادية والجسدية.
- التصورات الخاطئة عن الدين وعن القرآن الذي أصبح يتلى لمجرد التبرك وإقامة بعض الشعائر وللتزيين الصوتي والصوري في شتى المناسبات.
- البعد عن اللغة العربية وانتشار العجمة واللهجات العامية في أوساط الأمة، مما صعب من فهم القرآن الكريم ناهيك عن التأثر به والانفعال بآياته.
- التكبر عن قبول الحق والإصغاء إليه: فالتدبر الحق شأنه شأن الخشوع ليس متاحا للعصاة ولا للمتكبرين لقوله عز وجل:( (سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق..)) (الأعراف 146).
- الاكتفاء بالحفظ وعدم إعمال القدرات العقلية المطلوبة في عملية التدبر.
ثانيا: طرح البدائل الشرعية والمنطقية في شكل وسائل وخطوات لتفعيل تدبر القرآن الكريم في أوساط الأمة: وأهم تلك الوسائل:
- وسائل تفعيل التدبر القلبية: من تجديد نية وصدق عزم.
- وسائل تربوية: كتدريب النشء على سلوكيات وأخلاق القرآن منذ نعومة الأظفار، ونبذ الفرقة والصراعات بين المسلمين والابتعاد عن التقليد والتعصب الأعمى.
- تفعيل وسائل التدبر الإدراكية في النفس: بالتوجيه الإيجابي لحاستي السمع والبصر وتفعيل دورهما في تطهير القلب عما يكدر صفوه وإزالة العوائق التي تمنعه من التدبر كالتعلق بغير الله.
- الاهتمام باللغة العربية وتوسيع ثقافة الفهم القرآني، والاهتمام بالقراءة الشمولية للسور القرآنية والقصص القرآني والحوارات القرآنية، وعدم الاكتفاء بالقراءة التحزيبية التجزيئية.
- الاهتمام بأهداف ومقاصد السور التي تكشف عن مستويات وأبعاد تدبرية متجددة.
فرقية العلواني تعتمد في منهجها على النظرية والتطبيق المترابطين معا لتحقيق فهم عميق للمعاني القرآنية وتطبيقها في حياة المسلمين بوسائل تعين على إعمال التدبر وتفعيله.
- منهجها من الناحية التطبيقية والفنية:
بتتبع بعض إصدارات رقية العلواني الكتابية والشفاهية، بدا واضحا أن رقية تتبنى منهجا تحليليا تفصيليا، يراعى فيه التناسب بين الآيات والسور، وملاءمة المقصد الرئيسي للسورة، إضافة إلى الاهتمام بظروف التنزّل مع تأكيد حاكمية وهيمنة الآيات القرآنية في معالجة تلك الظروف وخلودها في معالجة الواقع الإنساني، كما تظهر الملامح المنهجية التالية في كتاباتها وحلقاتها:
-الاهتمام بتحليل المفردات، والبحث في معاني الكلمات وغريبها، والاهتمام بالفرائد القرآنية التي تكون ذات صلة عميقة بمقصد السورة ومحورها.
– الاهتمام بالسياق القرآني ودوره في تحديد أقرب المعاني، وبالسياق المخصوص للمفردة القرآنية: مثل حديثها عن ورود لفظة السلام في القرآن الكريم في مواضع متعددة، ثم بيان المعنى المخصوص للسلام في سورة القدر، وهو وصف لليلة القدر التي نزل فيها القرآن.
– مراجعة عميقة في ثنايا التدبّر المعروض لما شاع بين المفسرين من أقوال وروايات وردّ الضعيف منها من خلال التركيز على محور السورة ومقصدها وبيان خطورة الأخذ بالضعيف وشيوعه في تغييب محور السورة ومقاصدها، كما في تدبّر سورة عبس.
– التنزيل على الواقع وعدم الاكتفاء بالتنظير والتجريد، فطالما تنظر في العلاقة بين ما ورد في السورة من معاني وبين حال الأمة، وتسعى لتصحيح المفاهيم المغلوطة.
– تهتم رقية العلواني بموقع السورة وترتيبها في المصحف، مع تأكيدها أن ترتيب السور توقيفي وليس اجتهاديا.
وثمة خصائص فنية احترافية يمتاز بها منهج رقية العلواني تتمثل في:
- البساطة وعدم التكلف، فأسلوب رقية يمتاز باليسر والسلاسة والتشويق بعيدا عن الألفاظ الغريبة أو التكلف، فجاء ملائما للأسلوب القرآني الميسر من لدن حكيم خبير.
- تشويق السامع: فرقية تجنح إلى اختيار العبارات الراقية والأسلوب الرفيع الذي يستقطب ذهن السامع، ويشغل حواسه.
- الواقعية: فرقية العلواني، وإن تسللت بأسلوبها إلى قلب المتلقي، فإنها لا تسرح بخياله بعيدا عن الواقع؛ بل تربطه ببيئته وما يعيشه في يومياته، حلوا كان أو مرا.
- الإرشاد والوعظ: فكلاهما مستهدف في خطاب رقية العلواني، وإلا فما الهدف من عملية التدبر إذا لم ترشد ضالا أو تهدي حيرانا؟ ومعظم كلامها يصب في هذا القالب الوعظي الإرشادي، ولا غرابة في ذلك، فهذا من مقاصد الذكر الحكيم، وعليه سار الأنبياء والرسل وسائر الدعاة.
- إشراك السامع وحثه على تدبر المعاني العظيمة للآيات: فالمتدبر مع رقية يعيش أجواء إيمانية راقية تزيده إيمانا ويقينا.
- إثارة الأسئلة أثناء المحاضرة: مما يولد حيرة وتحفيزا علميا، ثم يوقظ ملكة البحث، ويستدعي حضور البديهة وهو ما يسهم في الإدراك الواعي للمعاني، ثم إن رقية تجيب بما فتح الله لها من تدبر في موضعه، ولا تترك السامع يستطرد في حيرته.
- التمثيل والتكرار: فالتمثيل يقرب الأفكار، والتكرار التدبري منبع للإبداع وتوليد الأفكار الجديدة من الألفاظ والآيات القرآنية التي لا تَخْلَق بكثرة الترداد؛ بل تزيدك نهما وحبا لاكتشاف أسرار القرآن الذي لا تفنى عجائبه، ولا تشبع منه العلماء.
وقد يعجب البعض بهذا الوصف الراقي لمنهج رقية العلواني، ويظن أن فيه شيئا من المبالغة والإطراء والمدح، فلا نستطيع أن نجيبه بألفاظ أو عبارات وحجج؛ بينما يمكننا دعوته إلى الانضمام، بصدق – وبدون خلفيات مسبقة- إلى جلسات رقية، التدبرية، بوعي، وحضور قلب، فسيجد الإجابة الشافية الكافية إن شاء الله، ليس من رقية العلواني فحسب؛ بل تجيبه تلك المجالس العلمية التي أضحت مجالس ذكر، قد غشيتها الرحمة، وحفتها الملائكة، وذكرها الله فيمن عنده.
وفي الختام، نؤكد ما طرحناه في مقدمة الموضوع، أن هذا العمل ما هو إلا إماطة لثام عن جهود عالمة مسلمة، عاملة وناشطة ، نزلت إلى الميدان، ولم تكتف بالنظرة الاستشرافية البعدية، ومفتاح استكشافي لعملية التدبر في قالب جديد ومتجدد، وطرح شيق وماتع، بهدف إحياء وتفعيل التدبر في وسط الأمة، وتوطيد العلاقة مع القرآن الكريم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نؤكد حرصنا الشديد على لفت الانتباه إلى أمثالها من الدراسات المعاصرة المبدعة التي تضرب بقوة في ساحة الدعوة الإسلامية عامة وفي الساحة القرآنية خاصة، والتي تحتاج إلى دعم وتحفيز، لاستكمال خطواتها، تقويما وإثراء، فإذا كان نقادنا الفضلاء يمجدون الدراسات الاستشراقية، ويسعون إلى تثمين محتواها، وتقديم الأعذار لأصحابها ، فإلى متى يغضون الطرف عن كفاءاتنا النفيسة ومبدعينا؟!، وفي مثلهم قال أبو فراس:
سيذكرني قومي إذا ما جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
ونسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.