الافتتاحية : تجديد “التّغيير”
الافتتاحية : تجديد "التّغيير" الأستاذ بن جدو بلخير – الجزائر
الافتتاحية : تجديد “التّغيير” الأستاذ بن جدو بلخير – الجزائر
لم تعرف البشرية مُجدِّدًا أعظم من نبينا محمد – صلَّى الله عليه وآله وسلم- من يوم بعثته إلى قيام الساعة ، وهذا ما شهد به المنصفون من الغرب أيضًا. وشريعته هي المادة الخام للتجديد والتغيير، فمن وُفِّق لاستلهام واقتباس النور منها؛ أحدث التغيير ولا بدّ، فإذا الناس في بعثٍ جديد وحياةٍ مُتجدِّدة..على أن التجديد مصطلحٌ خطير، فالكل يدّعيه، والحميع يمتطيه، ولكن القليل من يُوَفَّق إلى كُنْهه ويصدُق في امتطائه.
بُعث نبينا – صلَّى الله عليه وآله وسلم – فأبطل الشرائع المُحرَّفة ونسخ ما لا يتوافق مع النفس في آخر الزمان – زمانه صلَّى الله عليه وسلم- فكان منها : رفعُ الآصار وتغيير الأحكام العملية والانتصاف للمرأة؛ فخوطبت كما يُخاطب الرجل، وحارب العنصرية، وضيَّق منافذ الاسترقاق حتى تكون شريعته هي الشريعة الخاتمة الملائمة للاستمرار، وبقي جوهر الدين كما هو؛ ليدلّك أن التغيير لا يستلزم منه المساس بكل شيءٍ، فالتوحيد هو التوحيد والعقيدة هي العقيدة: لا يُعبد إلا الله، ولا تهيمن شريعةٌ إلا شريعته، قال الله عز وجل : (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)
والمجدِّدُ من لا يُفرّط في قديم الأدوات التي استعملها الأوّلون، ولا يغفل عن مُستحدثات العلم، يجمع بينهما، فإن قديمنا ليس منبوذًا؛ بل هو مستمدّ من النصوص المُحكمة والقواعد العقلية التي لا ينكرها عقلٌ مهما تقادم الزمان، والمستحدثات من الأمور تحتاج إلى تبصّرٍ وتقلّبٍ في العقول حتى يدركها عقلُ المتجدِّد؛ فيُكيِّفها على ما استقرَّ من الشريعة، و قد يضطره الأمر لاستعانةٍ من أهل الاختصاص، تكشف له ما يعزُب عنه، فإن العلم رحمٌ تتمدّد وتتوسَّع، والإحاطة بها عسيرة، فكان لا بد من تعاونٍ يُفضي إلى نتيجةٍ تنضبط تحت أصول الشريعة؛ وهذا عين التجديد، لأن الفتوى من إمامٍ معاصرٍ جامعٍ للشرائط هي من الدين! وإن خالفتْ متقدِّمًا، ثم إن الخلاف يقع في التصوّر أما الطريق إلى الحكم فلو أدركه الأول لسلكه؛ ولذلك بحث العلماء مسألة المستفتي إذا صادمت مسألته فتوى إمام المذهب مع قول إمام زمانه؛ اختار فتوى إمام الزمان خاصّة؛ على ما رجّحه الزركشي في (البحر المحيط)، والجويني في (الغياثي)،(1) لأن قواعد الإسلام ملائمة للمعاصرة، وروح الإسلام تنسجم معها؛ فاعتُدّ بها .
وما يقال لأهل الفقه يقال لأهل الدعوة؛ ولكلِّ من يعمل في حقل الإسلام، لكن الحديث يتغيّر ويتّسع إذا خرجنا من نطاق الفقه الذي ينحصر في التنظير الذي تحتمله الخاصة من طلبةٍ خواص، لهم إمكانيات خاصة، إلى رحابة الدعوة التي تعجّ بأشخاصٍ خواص لهم استعدادات خاصة مُغايرة، يحتملون ذلك الفقه تطبيقًا ونشرًا أكثرَ منهم تأصيلًا وتنظيرًا؛ ولذلك وجب من أولي الفقه والتقدُّم في الدعوة أن يهتموا في مبتدأ همّهم بالشباب؛ فإنهم طاقةٌ كامنةٌ؛ إن أحسنوا استغلالها وتوجيهها تفجّرت عن أعمالٍ لا يطيقها غيرهم، وتأمّلنا أكثرَ من حالف النبي -صلَّى الله عليه وسلم- ومن أحاط به؛ فكانوا هم الشباب، والله يقول حكايةً عن موسى -عليه السلام : (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) والذرية تحتمل معنى الجيل الجديد من الأبناء، وإذا ازددت تأمّلًا وجدت الشباب هم محلّ التغيير؛ فعلى المشايخ أن يهتموا بصلاحية هذا المحلّ حتى يكون أهلًا لما ينشدونه؛ مع ما يرونه من تطوّرٍ وتسابُقٍ في كل ميادين..
على أنّ هذا لا يضطرّنا لإغفال أيّ فردٍ في المجتمع، وإنما قالوا : الشيخ أخبرُ بمَرَاشد الدنيا، لأن طول العمر مظنّة التجربة .
وقالوا : إن الشاب أقصر عن معرفة مصالح الدنيا، لأن قِصر العمر مظنّة الطيش والشّطط .
وهذا القول ليس قاعدةً مُطَّرِدةً لاتحيدُ عن الحقّ، فقد نرى الشيخ وهو أحمق ما يكون، وأخرق ما يرى من الرأي، ونرى الشاب وهو أبصر ما يكون بمواقع الحكمة .
والمُعوّل عليه إنما هو الإمتلاء علما والتّضلُّع منه، فإن الله يقول : إنما يخشى الله من عباده العلماء. ولم يقل الشيوخ ولا الشباب..
وعلى هذا يقال لأولئك : العالم بعلمه؛ وليس بسنّه !
والعلم بالواقع وفقهه وتتبُّع المستجدَّات يرفع عن مُناشِد التغيير الجهلَ الذي يجعل علمَه قاصرًا، فإن أحوال العالمين يستوعبها الشرع شريطة العلم والإحاطة بها حتى تتنزَّل القواعد عليها تنزيلًا موفَّقًا، ولا يعني هذا صوابُ الحكم دائمًا، فإنّ على الفقيه أن يبذل الوُسع مخلصًا في إصدار الحكم، ثم يُوكّل أمره إلى الله، ويبقى التشريع الإلهيّ مُنزّهًا عن خطأ المخطئ مع ثبات الأجر، يقول النبيّ -صلَّى الله عليه وآله وسلم- موصيًا أمراءه : (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ) وفي هذا النّص تشجيعٌ على معالجة الوقائع مع الحوط والتنبيه أن ذلك لا يعني أن حكم الأمير هو ذاته حكم الله، وإنما هو اجتهادٌ.
وبعدُ؛ فمن تصدَّى للتجديد وجب أن يكون مُتجرِّدًا للحق يبتغي مرضاة خالقه، ينتوي خدمة الإسلام لا الميل إلى أهواء العامة، ولا الاحتكام لمرادات السلطان كما نراه في مشيخة السُّوء، قال الجويني في الغياثي : “من لم يقاوم عقله هواه ونفسَه الأمّارة بالسوء، ولم ينتهض رأيه بسياسة نفسه؛ فأنّى يصلح لسياسة خطّة الإسلام؟”. والسلام
وكتب
المُتحنِّنُ إليهم
بن جدو بلخير
(1) هذا الأمر ليس قاعدةً مُطَّرِدةً، ففيه تفصيل وبحث ومقارنة وإنما ذكرت هذا من باب الذّكر والتنبيه