الأسرة المسلمة وتحدي مقصد الإبهاج – إيمان سلاوي – المغرب
لبست أغلى ماعندها وانتظرت أن ينتبه زوجها لجديدها فلم يبال، نبهته وسألته عن رأيه في فستانها الجديد فرد قائلا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” ، أفحمها باستعمال الحديث الشريف فرددت في نفسها: صدق رسول الله، انتكست أنوثتها أمام قوة الحجة والدليل وقررت أن تنشغل بأعمال القلوب، في الضفة الأخرى كان الأبناء قد اتفقوا على فتح حوار مع والدهم على هامش مجلسهم الأسبوعي الذي يقرؤون خلاله صفحات من رياض الصالحين، وعلى هامش المجلس سأل زعيمهم والده: أبي أما السفر فقد علمنا ضيق الحال وقلة ذات اليد وتفهمنا، فلماذا نحرم من سفر من أماكننا بمشاهدة العالم من خلال الفضاءات المفتوحة التلفاز، الأنترنت، الهواتف؟..خطب فيهم الوالد موضحا الأخطار التي تحذق بهم وساد الصمت استسلاما أمام حجم الأدلة التي أوردها وختم المجلس بالدعاء الصالح …
هذا المشهد نافذة على كثير من بيوت أهل الصلاح حيث يسود الكثير من الوقار، ويغلب الصمت على أغلب الأوقات، ويقل التعبير التلقائي، الجد يغلب على كل النقاشات حتى يبهر العابر لهذه البيوت ويتمنى الواحد لو أحكم القبضة على أسرته فكانت مثل ذلك النموذج، لكن في الكثير من الأحيان نجد أن هؤلاء الهادئين المنضبطين يحملون في أعماقهم ثورة على النموذج، قد يكون سببها انفتاح على الغرب بسبب دراسة أو غيرها، أو يكون سببها انفتاح على نماذج أسرية أخرى أكثر انطلاقا وتفتحا، قد يكون من آثار هذا النموذج ضعف في التعبير عن الذات، وعجز عن تقبل الآخر المختلف وشوق للتحرر من القيود قد يظهر في شكل تفلت من الضوابط الشرعية متى وجد الفرد الفرصة لذلك.
يمكن القول إننا أمام تحد جديد تعيشه أسرنا المسلمة هو مدى قدرتها على الإبهاج والإسعاد، إلى أي مدى تستطيع أن تلبي الحاجة إلى الفرح والمرح والانطلاق في التعبير عن الذات، إن ما كان يعتبر مقاصد تحسينية في الأسرة لا يتوسل إليه كما يتوسل للضروريات، أصبح اليوم حاجة ملحة في خضم المنافسة الشديدة للنموذج الإنساني المعاصر وقدرته على استقطاب أبنائنا وأجيال المستقبل .
والسؤال هو هل من إمكانية لمراجعة المنطلقات التصورية التي تحول بيننا وبين أن نبقى على قيد الفرح – كما عبر عن ذلك الأستاذ أحمد الأبيض في مداخلة له بمؤتمر ميثاق الأسرة بتركيا-، أليس من المفاهيم السائدة أن الضحك مذهب للوقار وكثرة الضحك تميت القلب، وقد يستند الناس في هذا لبعض الآثار من قبيل أن الرسول صلى عليه وسلم كان ضحكه التبسم فقط، أو لقوله تعالى: ( أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون ) النجم 59-60، أو قوله صلى الله عليه وسلم : “إياك وكثرة الضحك، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه” ، ولعله من المنطلقات التصورية المؤطرة لما ذكرته من ملامح للأسرة المسلمة؛ النزوع نحو التكتم والتستر والتورع عن إشراك الآخرين في النجاحات والأفراح ظنا من الناس أن في ذلك تجاوبا مع تحذير الشرع من العين ودعوته إلى قضاء الحوائج بالكتمان، ومن الأسباب أيضا عدم الاكتراث بالبعد الذوقي والجمالي في الحياة وتفاصيلها بدعوى أن الانشغال والاهتمام يجب أن ينصب على أحوال القلوب والارواح، ومن ذلك اعتبار الفسحة والسياحة في الأسرة المسلمة مما يستغنى عنه بالعبادة وسياحة الروح..ومن ذلك أيضا اعتبار المربي أن نأيه عن المزاح والمبالغة في الدعابة مطلوب لأن في غير ذلك منقصة لهيبته وسلطته.
إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بروح تأملية، ونفس تحرري من المقولات السائدة والقوالب الجامدة، يجد نفسه أمام نموذج سابق لزمانه في استحضار بعد الإبهاج والإمتاع كمقصد حاضر وجلي ضمن مقاصد الأسرة، الأمر الذي آن الأوان أن نجدد إظهاره لتهتدي به أسرنا بأصالة ووعي، منسجمة مع مقتضيات العصر الحديث وضغوطه التي تجعل الحاجة ماسة لجعل الأسرة متنفسا يلجأ إليه الصغير والكبير ليستعيد طاقته ويجدد همته ويثبت على قيمه ومبادئه، ومنسجمة أيضا مع مخرجات الدراسات والأبحاث التي تؤكد أن الأسر السعيدة صمام أمان للمجتمع لما تسهم به من تحصين أبنائها وتمكينهم من التوافق النفسي والاجتماعي.
الألفاظ القرآنية ودلالتها على المتعة والفسحة في الحياة الاسرية:
الأهل لباس يسعدنا:
قال تعالى: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) البقرة 187، فدلالة اللباس عميقة في التعبير عن االشعور بالمتعة والرضا والسعادة، وقد ركز أهل التفسير على دلالتها على الستر ولكن للباس منافع كثيرة مما يرتبط بموضوع الإبهاج منها أن اللابس يزيده اللباس ثقة وفرحا، خاصة إذا كان مناسبا له مريحا محققا للغاية المرجوة منه، وهذا لا يتم إن لم يكن بين الزوجين من الوصال والقرب والحديث والأنس الكثير، ورصيدنا في ما يشهد بالاعتبار لأهمية المودة والرحمة في الحياة الاسرية من نصوص القرآن والسنة والسيرة النبوية كثير جدا، ومعلوم وقد أفاد وأجاد الوعاظ والدعاة في إعادة إخراجه والدعوة إليه، وإنما أريد بهذه الإشارة أن أؤكد على امتدادات أبعاده للإسعاد والإبهاج وهو ما ستجليه الإشارات المقبلة في هذا المقال..
أبناؤنا وأهلنا من الطوافين علينا والطوافات:
قال تعالى: ( ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور 58، لقد ركز اهل التفسير على استخلاص آداب الاستئذان من هذه الآية فاشتغلوا بمساحة القيد، وأهملوا مساحة الإباحة، بينما هي المساحة الأكبر متمثلة في قوله تعالى (طوافون عليكم ) بحيث لم تأخذ ما تستحقه من التأمل، باستثناء ما ورد من اعتبارها دالة على جواز تردد الأبناء والخدم على أهلهم دون حرج، إلا أنني أجد في استعماله عز وجل لعبارة طوافون بصيغة المبالغة، ما يستدعي أن نستنبط الكثير من الدلالة على الالتحام والاتصال والانسجام، فلا يطوف الإنسان إلا حيث وجد قبلته وضالته وسعادته ففي الطواف تردد وأنس، ويرتبط الطواف بالأنس والفرح في سياقات أخرى في النصوص الشرعية ومن ذلك قوله تعالى: ( يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ) الإنسان الآية 19، وورد استعمال طوافون عليكم في حديث الهرة حيث قال صلى الله عليه وسلم: ” إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ” فدل ذلك على أنها مصدر أنس وفرح غير مزعج .
الأسرة المسلمة علاقاتها منفتحة على الأهل والأصدقاء:
قال تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) النور 61؛ فالآية الكريمة تعرض لنا صورة الأسرة المسلمة المنفتحة على الأهل والأحباب والأصحاب، مبنية علاقاتها على الثقة ورفع الحرج، تميل إلى الألفة والأنس بالناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ” المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف” ، فالأسر التي تعيش علاقات إيجابية مع عائلاتها وتجتمع مع الأهل باستمرار، وتحرص على استغلال المناسبات والفرص للقاء الأهل والاجتماع بهم، بل تزيد إلى الأهل الأصدقاء يكون أفرادها في صحة نفسية، نشرت في دورية PLoS الطبية، أن الصديق يوفر الدعم الاجتماعي من جهة، والإرشاد، والمساعدة المادية، لأن العلاقة مستمدة من الثقة المتبادلة بين الطرفين، إضافة إلى ذلك فإن الروابط المشتركة بين الأصدقاء تجعلهم يقضون وقتاً ممتعاً حتى في الأوقات العصيبة، إن من دواعي الإبهاج في العلاقات الأسرية أن تكون متجددة بحسن صحبة الأخيار، مستثمرة لفضاءاتهم التربوية مكانا وزمانا كما تدل على ذلك الآية، مستعينة بالفرص للقاء الأقران والأجيال، مدربة أبناءها على قيم التواصل وآدابه ومهاراته .
الهدي النبوي في الإبهاج الأسري:
ولنا في سيرة المصطفى ومضات مضيئة في بعض الأساليب التي تحقق معنى المتعة في الحياة الأسرية وتجلي معنى الشعور بالسعادة في ظلها، وإن كانت من الكثرة بما يضيق به الحيز المتاح في هذا المقام فسأكتفي ببعض الإشارات التي لها أهميتهما في تحقيق الإبهاج والإمتاع في الحياة الزوجية والأسرية تبعا لذلك:
السفر: روى البخاري ، ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه ِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ” وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: ” سافروا تصحوا”، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يخصص يوم الخميس للسفر، عَنْ كَعْب بن مَالِك رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ يَخْرُجُ إِذَا خَرَجَ فِي سَفَرٍ إِلاَّ يَوْمَ الخَمِيسِ. أخرجه البخاري….دلت النصوص المذكورة أن السفر كان مهما في حياته صلى الله عليه وسلم وإن كانت النصوص لم تعكس إلا وجهات محددة كالعمرة والحج والغزوات، إلا أنني أعتقد أن تحفيز الرسول صلى الله عليه وسلم على السفر، وتأكيد الحديث على حرصه المنظم على إشراك زوجاته فيه، وتخصيص يوم لذلك، يؤكد أن السفر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان أوسع مدى مما نقل إلينا، وتؤكد الدراسات على الأثر النفسي للسفر على الأفراد والأسر الأمر الذي يتناغم مع المقصد النبوي الواسع الذي يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم ” سافروا تصحوا ” إذ تؤكد الدراسات الحديثة أهمية السفر في تمتين الروابط الأسرية، وتحقيق التوازن، وإعطاء الفرصة لتطوير الذات، وتوسيع آفاق التأمل في الأمكنة والتجارب الإنسانية ، والقرآن نفسه أورد صفة السائحات كصفة مميزة للزوجات المثاليات اللائي وعد الله أن يرزقهن لنبيه الكريم إن رغبت عنه زوجاته قال تعالى: ( عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) سورة التحريم الآية 5 ومن صور الفهم المضيق لقصد الإبهاج في الحياة الأسرية؛ أن استبعد اغلب المفسرين أن تكون الزوجة معنية بواجب السياحة بمعناه الحقيقي، لأن في ذلك مخالفة لمقتضى الحفظ والصيانة، فقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من سائحات صائمات أو مهاجرات ، وقد أنكر القاسمي على المفسرين هذا المذهب معتبرا” أنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء، كما هي كذلك للرجال، فمعنى قوله تعالى (سائحات) مسافرات، سواء كان السفر لهجرة، أو اعتبار، أو اطلاع على آثار الأمم البائدة” ، وأضاف معللا إنكاره عليهم: “كأن الذي دعا البعض لتفسير السائحات بالصائمات أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء (…) وكأن الآيات الآمرة بالسير للنظر، والعبرة، والإحاطة، والخبرة، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا، بل للنصف منها وهو للرجال، وحاشا أن يكون ذلك وهو مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم في سفره مع أزواجه” ، وإذا ثبت ذلك كانت صفة الإقبال على السياحة من طرف الزوجة بمعناها الحقيقي متمثلا في حب الأسفار والتطلع إليها، أو بمعناها المجازي كالسفر بالتفكر في أحوال الناس و الثقافات والأفكار وغيرها مكرمة في المرأة، ومدعاة لإضفاء طابع التجدد على الحياة الأسرية، وما كانت خديجة رضي الله عنها لتكون بذلك الوعي والنضج حينما أوى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، لولا انفتاحها على المجتمع ومعرفتها بالأديان السماوية الموجودة، ومعرفتها بخبرة ابن عمها ورقة بن نوفل، فالسفر إذن له فوائد كثيرة تنعكس على صحة أفراد الأسرة النفسية والبدنية وترفع منسوب الوعي والإدراك وتعزز التقارب والتواصل بين افراد الأسرة .
تخصيص أفراد من الأسرة بحديث خاص: إن من ملامح القتامة في العلاقة الزوجية كثرة التحرج من الحديث إلى الزوجة واعتبار ذلك منافيا للوقار، وقد تجد من الزوجين من إذا سار ترك بينه وبين زوجته أمتارا حرصا منه على الظهور بمظهر الوقار والجدية، وقد وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نموذجا متفردا في الأنس بالحديث لزوجته خاصة ما نقلته لنا عائشة رضي الله في مواقف مختلفة سأكتفي بذكر واحدة منها وهي ما رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ” إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث “، وإذا كان الإفضاء بين الزوجين سبيلا لمتين العلاقة بين الطرفين والتنفيس عن ما يمكن أن يكون بهما من كرب، فإنه مطلوب بين أفراد الأسرة وقد يكون إيجابيا أن يخصص لأفراد دون غيرهم تعزيزا لذواتهم وتخصيصا لهم بالعناية والاهتمام وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في هذا المنهج، لنتامل مثلا كم حديثا خص به شباب الأمة الذين أركبهم معه على ما يركبه حيث نجد في طرف الحديث ” وكنت رديفه “، ومنهم من كان من أفراد أسرته كابن عباس وأسامة بن زيد وأنس بن مالك الذين آواهم بيته عليه الصلاة والسلام .
احترام حق أفراد الأسرة في الاستمتاع مع الرفقة المحببة لهم والأنس بها: إذ مما يساهم في تنفيس الضغوط أن يكون الحق لكل فئة في الأسرة بلقاء رفقائها والاستمتاع بلقائهم ، فتمكين الزوجة من لقاء رفيقاتها، وتمكين الزوج من لقاء أصدقائه، وتمكين الأبناء من الاستمتاع بلقاء الأصحاب والأقران، كل ذلك يضفي التوازن على العلاقات بين أفراد الأسرة، ويخفف من الشعور بتملكهم، وفي ذلك ضمان لتلبية حاجات الأبناء للانتماء، فمن هديه صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كانت تأتيني صواحبي فكن ينقمعن (يتغيبن) من رسول الله – ﷺ – فكان يُسربهن إلي (يرسلهن إلي ).
الضحك والمرح في الحياة الأسرية: إذ من الأمور التي فهمت خطأ في ديننا الموقف من الضحك، فقد تبث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تظهر نواجده ، وثبت أنه كان يعيش صورا من المرح واللعب الذي نقلت روايته في بداية حياته الأسرية كما في مراحلها المتقدمة، مما يدل على أن إضفاء البهجة على العلاقات الأسرية كان منهجا دائما وروحا تسري في حياته الأسرية عليه الصلاة والسلام، وكتب السيرة غنية بالمشاهد والمواقف سأكتفي منها بما روته عائشةَ رضيَ اللَّهُ عنها: أنَّها كانَت معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في سفَرٍ قالت: فسابقتُهُ فسبقتُهُ على رجليَّ، فلمَّا حَملتُ اللَّحمَ سابقتُهُ فسبقَني فقالَ: هذِهِ بتلكَ السَّبقةِ ، لا احتاج أن أستعرض أخبار ملاعبته صلى الله عليه وسلم لأحفاده وحمله لأمامة حفيدته على كتفيه وهو يؤم الناس، فالشواهد كثيرة ولكن حديث عائشة يعتبر أقوى الأمثلة في الدلالة على حجم حضور المرح والبهجة في العلاقة الأسرية، إذ يثبت العلم الحديث اليوم أن الضحك علاج للكثير من الأمراض البدنية والنفسية، ويزيد من المناعة، ويمنح للفرد الثقة في نفسه، ويساعده على النوم والاسترخاء، كما أنه مفتاح لامتصاص التوتر و مدخل لتمتين وتقوية الأواصر ..ولا يمكن أن يكون ديننا إلا موافقا للعلم متناغما معه مما يستدعي أن نفهم منه أن النهي عن الإكثار من الضحك الذي ورد في أحاديث أخرى له سياقه الخاص الذي لا يلغي القاعدة ولكن يهذب ما يمكن أن يقع مبالغة في أي اتجاه، فالضحك الذي تترتب عنه العداوات القائم على السخرية بالناس والضحك على معاناتهم طبعا ليس مرغبا فيه، أو الضحك النابع من الاستهتار بأمر الله أو المانع من التأثر بالمواعظ والعبر فهو ضحك غير مرجو وبعيد عن ما نتحدث عنه ، أما الضحك بما هو علامة على الصحة النفسية وسبيل إليها فلا يمكن إلا أن يكون مرحبا به ومرغبا فيه في ديننا وشريعتنا. ومن الخطأ في تقديري أن نستنبط من السيرة أن ميل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التبسم هو نفور من الضحك وكراهة له، إذ المطلوب التمييز بين ما يغلب عليه صلى الله عليه وسلم مع الناس في علاقاته المختلفة والتي يفرض فيها أن يطبعها الوقار، وبين علاقته بأهله التي تتميز بالخصوصية فلا نتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيسابق عائشة وهو يحبس ضحكته، أو سيداعب الحسن والحسين ويمشي على أربع حذرا من أن تتحول بسمته إلى ضحك.
الفرجة الجماعية:
تعتبر الفرجة الجماعية مصدرا من مصادر المتعة دأبت المجتمعات على إبداع أشكالها، وبلغت ذروتها اليوم بشكل غير مسبوق في العصر الحديث حيث تعددت أشكال المواد المعروضة للفرجة بين السينما والمسرح وأشكال الاستعراض، والمواد الإعلامية المتنوعة …..وتخصيص الأسرة باجتماعات لتحقيق المتعة من خلال الفرجة الجماعية من شأنه أن يوطد أواصر أفرادها، ويوحد قيمهم ورؤاهم، كما يغني ذاكرتهم العاطفية بلحظات جميلة، كما أن الفرجة الجماعية يمكن أن تمرر خلالها توجيهات تربوية ورسائل أخلاقية بدون ضغط ولا توجيهات مباشرة كثيرا ما تكون غير محببة من المراهقين خاصة.. ولنا في سيرة المصطفى خير مثال ” عن عائشة رضي الله عنها قالت: “وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإمّا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإمّا قال: “تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم. فأقامني وراءه، وخدي على خده، وهو يقول: “دونكم يا بني أرفدة” حتى إذا مللت قال: “حسبك؟ قلت: نعم. قال: “فاذهبي” فقد قدم في هذا المشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الدليل على مشروعية إمتاع أفراد الأسرة بالمشاركة في فرجة ممتعة، مستصحبا جمال مشاركتهم، والنزول عند رغبتهم، وإضفاء مشاعر الود والرحمة على أجواء المشاهدة.. والحاجة اليوم ماسة إلى هذا النوع من التشارك في الأسرة تحصينا للأبناء من متاهات المشاهدة والفرجة الفردية التي لا تحمد عقباها، كما نجد فيه فرصة لتوجيههم لمنهج الانتقاء السليم لما يستحق المشاهدة، وتنمية قدرتهم على النقد والإبداع .
خلاصة القول: إن بعض المفاهيم السائدة حول الاسرة بين المسلمين – ظنا منهم أنها من الدين – تحول بيننا وبين استقطاب الأجيال الناشئة، وتعطي صورة قاتمة عن حياة المسلم، فإذا كانت مؤسسة الأسرة صمام الأمان لحماية القيم، فإننا مدعوون لجعلها مؤشرا على جمال المبادئ التي تسود فيها، إن إضفاء أجواء البهجة والفرحة على يومياتنا الأسرية من شأنه أن يحبب أفرادها في التمسك بها واللجوء إليها.
فالأسرة مقام لإظهار قيم الجمال في كل أبعادها، وقد بين الحديث الشريف أن كل الفضاءات التي يرتادها المسلم مسجد، قال صلى الله عليه وسلم : ” وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا “، والله امرنا بأخذ الزينة عند ارتياد المساجد يقول تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) وقال تعالى: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، فبيوتنا مساجد تدل على الله وجب أن تزين بمعاني المودة والرحمة والحب والتآلف التي تعج بها شريعتنا، كما وجب أن تنأى عن الضيق والقتامة والتجهم، وفرق كبير بين التنشئة على الحياء والخوف من الله والورع في ظل جو تربوي متوازن يعطي للفرح حقه، ويقدم هذه القيم في قالب محبب، وبين أن تقدم هذه القيم في قالب من الكآبة والترهيب الذي قد يترتب عنه النفور والانبهار بواقع الأسر الغارقة في المتع الدنيوية البعيدة عن الله وهديه.. إننا مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى جعل أسرنا مرافئ، يلجأ إليها أفرادها ليجدوا الدفء في زمن سادت فيه البرودة العلاقات الإنسانية، ويجدوا الثقة في زمن فقدت فيه الثقة، ويجدوا فيها الأجواء المساعدة على رفع الهمة وتوفير الشروط للإقبال على الدرس والعمل، ويجدوا فيها البلسم في زمن كثرت فيه التزامات كل أفراد الأسرة وزادت الضغوط من كل باب.. إننا مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى للاستفادة من كل الأساليب المنصوح بها من طرف أهل العلم والخبرة لجعل أسرنا أكثر سعادة لأن هذا هو السبيل لضمان تماسكها وتميزها ودوام قدرتها على القيام بدورها الكبير في حياتنا الاجتماعية .