حصريا

أصل كلمة “قرآن” عند بلاشير، وتاريخ جمعه من خلال كتابه: “القرآن، نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره”- أ. صفية شعتان-الجزائر-

0 761

أصل كلمة “قرآن” عند بلاشير، وتاريخ جمعه من خلال كتابه: “القرآن، نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره”
تعدُّ المدرسة الاستشراقية الفرنسية من بين أهمّ المدارس الاستشراقية اهتماماً بدراسة كلّ ما يتعلّق بالشّرق عموماً، وبالقرآن الكريم على وجه الخصوص، ويظهر ذلك من خلال احتضان فرنساأوّل ترجمة لمعاني القرآن الكريم، ولم يقتصر الأمر عند التّرجمة فحسب؛ بل كانت للمستشرقين الفرنسيين آراء ودراسات متعدّدة حول القرآن الكريم، تصبّ أغلبها في قوالب واحدة صمّاء يستقي بعضها من مقولات بعض، وإن تعدّدت طرق عرضها على طاولة البحث.
ويأتي في مقدّمة المنتمين إلى ” المدرسة الاستشراقية الفرنسية:المستشرق “ريجيس بلاشير Regis Blachére” ( 1900-1973م) “والذي يعتبر من أهم الذين أولوا عنايةً بالغةً بالقرآن الكريم وعلومه،تأليفًا في العديد من موضوعاته على غرار باقي المستشرقين الفرنسيين كــــ “هنري ماسيه H. Massé”(ت:1969م) وغيرهممّن تناولوا بعض القضايا المتعلّقة بالقرآن الكريم في جزئياتٍ من مؤلفاتهم.
لذلك ارتأيت في مقالي هذا تناول ما تطرّق إليه بلاشير في مُؤلَفه: ” القرآن نزوله، تدوينه، ترجمتهوتأثيره “، فيما يتعلّق بـــ:مسألة جمع القرآن الكريم؛ إضافة إلى الأصل اللغوي لكلمة “قرآن”، بعرض أهم آرائه وتفنيدها وفق منهجٍ علمي موضوعي بعيدٍ عن التّهويل والاتهام.
وقبل هذا يجدر بي طرح الإشكالية الآتية:
من هوريجيس بلاشير ؟ وما هي أهم مؤلفاته؟ فيم يتجلى منهجه في كتابه “القرآن”؟ وما هي أهم آرائه الواردة فيه؟
1. التّعريف بالمستشرق ريجيس بلاشير:
أ‌. نشأته ووظائفه:
ولد بلاشير في 30 يونيو 1900م، في ضاحيةٍ من ضواحي باريس تُدعى بــــ ” مونروج Montrouge “؛اشتغل أبوه كعامل بمتجر، ثمّ كموظف بسيط في الإدارة الفرنسيّة بمراكش .
زاول بلاشير دراسته بـــ: ثانوية ” ليوتي Lycée Lyautey ” في مدينة الدار البيضاء المغربية. وبعد انهائه المرحلة الثانوية عمل كمترّجم، غير أنّ أساتذته ألفوا فيه استعدادا قويّاً لدراسة وتعلّم اللّغات الأجنبية فوجّهوه إلى تعلّم اللّغة العربية على وجه الخصوص ليُصبح مستعرباً بعلوم العربية … ؛ لكنّه لم يَتمكّن من التفرغ للدّراسة في هذا الميدان بسبب الأعباء المالية التي تفرضها عليه المعيشة، لذلك اضطر إلى العمل في وقت مبكّر كموجه في معهد ” مولاي يوسف “بالرّباط،غير أنّه واصل دراسته العليا الحرّة، وقد ساعده على النّجاح فيها ولعه الشّديد بالمطالعة لِمَا اتّصف به من ظمأ لا ينتهي إلى المعرفة .
حَصَلَ بلاشير سنة 1922م على ليسانس في اللّغة العربيّة من كليّة الآداب بالجزائر . وكان أساتذته فيها : المستشرق هنري ماسيه H.Massé(ت:1969م)، والمستشرق ايفاريست ليفي بروفنسال E.Levi-Provencal (ت:1956م) . الأوّل منهما كان يدفعه إلى التّعليم، والثّاني يُريد منه أن يُصبح دارساً للاتينية ومُؤرخاً لروما القديم… في سنة 1924م نال بلاشير درجة الأغريغاسيون Agregation ، وعاد بعد ذلك إلى الرّباط، كمُدرس بمدرسة “مولاي يوسف”، ممّا ولّد له رغبةً قويةً لمعرفة المزيد عن العالم العربيّ والإسلاميّ .
تقلّد بعدهابلاشير منصب أستاذ ومدير الدّراسات في معهد الدّراسات المغربية العالية L’institut des Hautes Etudes Marrocaines، سنة 1929م، وكان ذلك بفضل ليفي بروفنسال؛ واستمرّ في عمله هذا حتى سنة 1935م . إلى أن تحصّل سنة 1936م على دكتوراه الدّولة من جامعة باريس برسالتين:
الأولى موسومة:” شاعر عربي من القرن الرّابع الهجري:أبو الطّيب المتنبي “.
أمّا الثّانية :ترجمة فرنسيّة لكتاب ” طبقات الأمم ” لصاعد الأندلسي مع تعليقات وفيرة مفيدة.
كما عيّن أستاذاً للّغة العربية الفصحى في ” المدرسة الوطنيّة للّغات الشّرقية ” في باريس ، واستمرّ في هذا المنصب حتى سنة 1950م، حيث شغل كرسي اللّغة والأدب العربيّين في السوربون إلى حين تقاعده سنة 1970م . وقد خَلَفَ وليم مرسيه M.William(ت:1956م) أستاذاً في القسم الرّابع من ” المدرسة العملية للدّراسات العليا ” المــُلحقة بمبنى السوربون في باريس، وشغل منصب مدير معهد الدّراسات الإسلاميّة المــُلحق بجامعة باريس من 1956م حتى 1965م ، وانتخب عضواً في” أكاديميّة النّقوش والآداب” إحدى أكاديميّات و معهد فرنسا سنة 1982م .
كما أسهم أيضاً في إدارة مجلّة ( أرابيكا ) Arabica، وفي رئاسة تحريرها منذ سنة 1956م إثر وفاة مؤسسها أستاذه ليفي بروفنسال إلى أن تنازل بلاشير عن إدارتها لتلميذه جيرار لوكونت G.Leconte سنة 1962 م.
أشرف بلاشير على العديد من أطروحات الدكتوراه التي تقدّم بها طلبة فرنسيون،إضافة إلى تخرّج أجيال من المستعربين الباحثين في مدرسة اللّغات الشرقية، وجامعة السوربون … وغيرها من المؤسسات التعليمية في فرنسا.
عُرف بلاشير بالتّشدد أثناء الدرس معوضوح الرّأي في عرضها، وحدّته، وقسوته على طلابه أحياناً، وكان على وصف معاصريه: ” رجلاً معاصراً ، بارداً، ذا وجهٍ هادئ جامدٍ ولكن من يتقرّب إليه يكشف الجانب الإنساني الحسّاس، الموهوب، المنفتح على الحياة والصّداقة” .
ولا شكّ أنّ تأثير البيئة المغربية في حياة ” بلاشير ” الأولى كان لها الدّور الرّئيس في حبّه للأدب والعربية بل وتخصّصه فيهما فيما بعد؛ فاختلاطه بالمغربييّن والعيش بين أكنافهم غرس فيه حبّ الاطلاع على آدابهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وهذا ما حاول نقله فيما بعد لتلاميذه من تحريضهم على تعلّم العربية، وهذا ما يظهر في قوله : « العربية معشوقة متشدّدة تتطلّب من المرء أن يُخصّص لها كلّ يوم ساعاتٍ عديدةٍ ». وليس تأثير البيئة المغربية على بلاشير في حبّه للعربية فحسب؛ بل عُرف عنه الدّفاع المستميت في استقلال شعوب افريقيا الشّمالية، والتشجيع على نشر الثّقافة العربية، فكان يهيئ ظروف الاستقبال لممثليها، حتى أنّه مؤسس جمعية تطوير الدّراسات الإسلامية ومركز استقبال طلبة الشّرق الأدنى بفرنسا .
ب‌. آثاره.
بالنّسبة لنتاجه العلميففي ثبتِ ( آثاره ) الكاملة الذي نشرته ” إيف باريه Paret . E ” في المــُنتخب من مقالاته Analecta الذي أصدره المعهد الفرنسي للدّراسات العربية في دمشق يجد المرء خمسة عشر كتاباً من تأليفه الخاص أو بالمــُشاركة مع آخرين، إلى جانب مائة وسبع عشرة مقالةً في موضوعات شتى كانت قد نُشرت في عديدٍ من المجلاّت والمنوّعات الاستعرابية و الاستشراقية، أو في بعض الموسوعات كالموسوعة الإسلاميّة، والموسوعة الكبيرة La Grande Enyclopedie،والموسوعة الشّاملة .
ومن خلال تتبّعنا لآثاره في الكتب التي ترجمت له، يــُمكننا تقسيمها إلى قسمين : قسم الإسلاميات، وقسم الأدبيات .
1) الإسلاميّات :
• ” مدخل إلى القرآن Introduction au Coran ” نشر سنة (1947م)، ثمّ أعاد نشره ثانية سنة (1959م) .
• ” ترجمة دقيقة للقرآن الكريم إلى اللّغة الفرنسيّة ” في مجلّدين ضخمين: ظهر الأوّل منهما سنة (1949م)، والثاني سنة (1950م) .
• كتاب ” القرآن Le Coran ” نُشرت الطبعة الثالثة منه سنة (1973م ) .
• ” معضلة محمد صلى الله عليه وسلم Le probléme de Mahomet ” سنة (1952م) .
2) الأدبيّات :
توزّع نتاج ” بلاشير ” فيها ما بين ” التّراجم والفهارس” في مجال الدّراسات الأدبية وعلوم العربية ، ومنها :
• ” قواعد العربية الفصحى ” بالتّعاون مع المستشرق ديمومبين ( 1937م) .
• “مبادئ العربية الفصحى Elements de L’arabe classique (1939م).
• ” تمارين على العربية الفصحى Exercices d’arabe classique ” بالتّعاون مع تشيكاليدي M. Ceccadi (1946م) .
• ” المتنبي الشاعر العربي الإسلامي ( مجلة الدّراسات الإسلامية 3/1929) “، وقد نقله إلى العربية الدّكتور أحمد بدوي، وقد تناول فيه الشّاعر ونقاده : ابراهيم اليازجي، وحسن المرصفي، وزكي مبارك، وأحمد حسن الزّيات، وطه حسين ..وغيرهم بالنّقد والتّحقيق، والتّعليق، فجاء من خيرة الكتب التي تعرّضت للشاعر.
ونظراً لما يُوليه بلاشير لشعر ” المتنبّي ” من الأهميّة بمكان صدرت له العديد من البحوث والدّراسات حول شعره منها: أبو الطيّب المتنبي _ بحث أدبي _ (1936م)، دراسة عن المتنبّي ( دائرة المعارف الإسلامية 3)، هل للعكبري تعليق على المتنبي؟ ( مؤتمر المستشرقين 20/1938م)، حول تعليق على ديوان المتنبي( حوليات معهد الدّراسات الشّرقية 4/1938م ).
• ” ترجمة طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ” بمقابلة النّص الذي نشره الأب شيخو على مخطوط باريس ( باريس 1935م) .
• ” قواعد نشر وترجمة النصوص العربية ” بمُعاونة المستشرق سوفاجيه (باريس1953م) .
• ” تاريخ الأدب العربي”(1952م)، وقد نقله إلى العربية الدّكتور ابراهيم الكيلاني .
وفي مجال الأدب الجغرافيّ له :
• ” اقتباسات من الجغرافيين العرب الرئيسيين في العصر الوسيط ” نُشر سنة 1934م ثمّ أعاد طبعه في دارمون Darmaun مُصحّحاً ومنقّحاً سنة 1957م ، وللعلم أنّ بلاشير هو الذي دفع بتلميذه المستعرب أندريه ميكيل A.Miquel إلى دراسة الأدب الجغرافيّ عند العرب في أطروحتيه لنيل الدّكتوراه .
أمّا مقالاته فغالبيتها كانت في موضوعات أدبية وشعرية، ونُحيل المــُهتمّين بها إلى المجموعة المــُنتقاة منها في مُجلّد واحد التي جمعها ثلاثة من مُريديه وطُلاّبه، وهم: أندريه ميكيل، جيرار تروبو G.Troupeau، وأندريه ريمون A.Raymond ونشروها سنة (1975م) بعنوان : “المــُنتخب من مقالات ريجيس بلاشير Analecta de R-Blachére ” ضمن منشورات المعهد الفرنسي بدمشق .
ت‌. وفاته.
توفي بلاشيرفي السّابع من شهر آب من سنة 1973م . وقد كتب تلميذه أندريه ميكيل في 25 من حزيران 1976م كتاباً ذكر فيه أنّه قبل وفاته أوصى بأن يكفّن جثمانه بجلبابه المغربي .
وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على تأثّره وحبّه للبلاد المغربية؛كيف لا ولها الفضل في تكوينه وتوجّهه لمجالي الاستعراب والدّراسات الإسلامية من نشأته الأولى.
2. كتابه القرآنومنهجه فيه:

يعدّ كتاب ” القرآن ” لريجيس بلاشير )Regis Blachére1900-1973م) الذي نشرته سلسلة ” que sais-je ” عام 1969م أهمّ عملٍ استشراقي فرنسي مُتكامل في مجال الدّراسات القرآنية على حسبِ تقديرِ الباحثين.
وكباقي أغلب الأعمال الاستشراقية في مجال القرآن وعلومه نقل كتاب بلاشير ” القرآن Le Coran que sais-je ” إلى العربية سنة 1974م بترجمة من رضا سعادة، حيث وضع له عنواناً آخراً وهو ” القرآن نزوله تدوينه، ترجمته، وتأثيره “، بإشرافٍ من الدكتور” الأب فريد جبر”، وتحقيق ومراجعة ” الشيخ محمد علي الزّعبي “، وصدرت التّرجمة عن دار الكتاب اللبناني _ بيروت_ ، ويقع في 179 صفحة ناهيك عن الملحقات .
ويتكوّن الكتاب من:
– الإهداء ( للمُترجِم ): والذي نرى فيه ثناءً على بلاشير باعتباره باحث جاد وموضوعي بقول المترجم « إلى كل من له رغبة في إطلالة موضوعية على القرآن ».
– التّمهيد ( للمترجِم ): تكلّم فيه حول الترجمة إلى العربية وصعوباتها مُعترفاً بــــجفافها في المقدمة والفصل الأوّل ،وصعوبة البحث عن النّصوص الأصلية التي ترجمها بلاشير إلى الفرنسية _ إلاّ الآيات القرآنية _ ، منبّهاً على نقطة منهجية مهمّة وهي ” عدم دقّة تحديد المراجع التي أخذ عنها المؤلف _ بلاشير _ فتارةً يذكر صاحب النّص واسم الكتاب دون ذكر الفصل والصفحة، وتارةً يذكر صاحب النّص فقط، وفي حالاتٍ أخرى يجمع كلمات متناثرة مأخوذة عن نص عربي طويل ووضعها بين مزدوجتين في سطرين أو ثلاثة أسطر ، كما وضّح عمل مُراجعِ الكتاب ” الشيخ محمد علي الزعبي ” من إضافته لردود وايضاحات على عدّة نقاطٍ في البحث .
– المقدمة ( للمُؤلّف ): تكلّم فيها بلاشير عن سبب تأليفه للكتاب، خاصّة وأنّ القرآن _ كما يراه _ كتاب ألغاز يطبع عليه الغموض، وصعوبة تتبّع سياقه الذي لا يرافق تاريخ الوحي، كما عَرَضَ موقف العالم البيزنطي ورجال الدين اللاهوتيين في طليطلة تجاه الرسالة القرآنية ، وتاريخ تراجمهم لها، وأشاد بعمل نولدكه في أطروحته ” تاريخ القرآن ” التي سوّغت التّحليل الدّقيق للعناصر المختلفة الأنواع التي تميّز بها القرآن، والتي جاء عمل بلاشير هذا بالاستناد على نولدكه خصوصا والمدرسة الألمانية عموما كمقدمة لقراءة الكتاب الموحى به إلى محمد .
وبالحديث عن فصول الكتاب فإنّه يتكوّن من سبعة فصول، الخمسة الأولى منها متعلّقة تعلّقاً مباشراً بمباحث الدّراسات القرآنية، على غرار الفصل السادس والسابع والتي جاءت كالآتي : الفصل الأول : المصحف بنيته وتكوينه .
الفصل الثاني: الرّسالة القرآنية في مكة.
الفصل الثالث: الرسالة القرآنية في المدينة.
الفصل الرابع: الواقعة القرآنية وعلوم القرآن.
الفصل الخامس: التفسير القرآني أصوله وأغراضه.
الفصل السادس: القرآن والسنّة مصدرا العقيدة والشّريعة في الإسلام.
الفصل السابع: القرآن في الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
وفي آخر الكتاب وضع المترجم معجماً للمصطلحات.
أمّا عن خصائص منهج بلاشيرفي كتابه فيُمكننا إجماله في النقاط الآتية:
• عدمُ إحالة بلاشير إلى النّصوص الأصلية التي ترجمها إلى الفرنسية ما عدا الآيات القرآنية.
• عدم التزامه بقواعد العلم والمنطق السّليم من خلال وضعه لمـــُقدّمات خاطئة وبناء نتائج عليها.
• اتّسام منهجه بالتّشكيك دون التّحقيق العلمي، والاستدلال العقلي، وذلك من خلال تكراره الأساليب الشكيّة التقديرية نحو: ربما، يُمكن، أو، يبدو …، كقوله في أصل كلمة “القرآن” :« ففي بعض المقاطع القرآنية وردت كلمة “قرآن” ، ويُمكن أن تكون هذه الكلمة مأخوذة عن اللّغة السريانية »، وقوله أيضاً في قضية جمع القرآن :«ويبدو أنّ فكرة تدوين مقاطع الوحي الهامّة التي نزلت في السنوات السالفة لم تنشأ إلا بعد إقامة محمد في المدينة » ،وقوله :«ربما وجب ألاّ نستبعد في ذلك فكرة بعض التّأثيرات الألفية …» ومثل هذا كثير في كتابه.لكن بلاشير لم يقف عند هذا الحدّ فحسب؛ بل راح في منهجه يشكّك في الأمور المسلّم بها، وكبرى القطعيّات ككلامه عن إبراهيم الخليل – عليه السلام- ووسْمِهِ له في عدّة مواضع من كتابه بأنّه المؤسس لعبادة الكعبة قوله: «و لا ضير أنّ تلك الأفكار هي من قبيل الخيال العلمي المردود بالعقل، المقبوح بالطّبع » .
• انتقاؤه، وتحريفه، واغفاله لذكر المصادر التي أخذ عنها، وهذا ما اشتكى منه المـــُترجم في المقدّمة؛ من عدمِ دقتهِ في تحديد الكتب التي أخذ منها بلاشير، فتارةً يذكر صاحب النّص واسم الكتاب دون ذكر الفصل والصفحة، وفي حالاتٍ أخرى يجمع كلماتٍ متناثرةٍ مأخوذة عن نصّ عربيّ طويل, ووضعها بين مزدوجتين في سطرين أو ثلاثة أسطر.
• اغفاله الاعتماد على السّنة كمصدرٍ ثانٍ من مصادر التّشريع الإسلامي .
• التّركيز على الشّاذ من الكتب التّاريخية الإسلامية ككتب الفهارس، وهذا ما يتماشى والهدف الذي يحاول الوصول إليه؛ من خلال اعتماده على كتاب الفهرست لابن النّديم …،كقوله في الصفحة السابعة والثلاثين من الفصل الأول من كتابه :« وأكثر ما يُمكننا هو الاستناد مع ضرورة الاحتراس القصوى، إلى تصريحٍ شهير لصاحب الفهرست العراقي ابن النّديم ( المتوفى بعد سنة 977م ) الذي يُؤكّد أنّه رأى في الكوفة مصحفين قديمين يحويان نصوص ظاهرة الاختلاف في تنظيمها وعناوين فصولها، وعدد آياتها مع مصحف عثمان القانوني ».
• اكتفاء بلاشير عند استدلاله على رأي له في قضيّة ما بالإشارة فقط إلى أرقام الآيات القرآنية مثل : «الزخرف 9-13 وخاصة يس 33-44 » و« المؤمنون 81-90 » و« الأنفال20-24 » و « آل عمران 31 » و « البقرة 59 »أو ذكر أسماء السور دون نصوصها نحو :« كان محمد مضطرباً متردداً في قواه، قريباً إلى اليأس أمام ضخامة رسالته ( سورة المدثر، والضحى، والانشراح )».
• اعتماد بلاشير على منهج الإسقاط من خلال قياسبعض مصطلحات عصره على مصطلحات العهد النّبوي كمصطلح” أوليغارشية “التي تعني زعماء القلّة الحاكمة، ومصطلح” الديمقراطية “، ومصطلح” ثيوقراطية “التي تعني الحكم باسم الله، وليس هذا فقط بل تجاوز الأمر إلى اسقاط بعض مصطلحات نصرانية على الدين الإسلامي كمصطلح “خليلات”، و”مبشر”.
3. الأصل اللغوي لكلمة” قرآن ” عند بلاشير، وآراؤه في مسألة جمع القرآن الكريم
أ. الأصل اللغوي لكلمة” قرآن ” عند بلاشير:
عنون بلاشير لهذه المسألة بـــ” بنية المصحف”، حيثعرضفي مستهلّ الفصل الأوّل من كتابه تعريف كلمة القرآن، إذ يقول:« إنّ السّور المنزّلة الأولى التي افتتحت بها دعوة محمد، تشتمل على الأصل اللّغوي لاسم” القرآن” . ففي بعض المقاطعالقرآنية وردت كلمة ” قرآن” بمعنى التّلاوة، ويمكن أن تكون هذه الكلمة مأخوذة عن اللّغة السّريانية، التي يرد فيها لفظ مشابه جدّا لهذا المعنى. أمّا بالنسبة لمحمد وأبناء جيله، فإنّ كلمة” قرآن” فضلاً عن كونها مزوّدة بجرس موسيقي، تُعبّر أساساً عن فكرة التّبليغ بالقول، والتّبشير الدّيني، والرّسالة التي أخذت عن ملاك. وفي وقت قريب من نهاية دعوة محمد فقط، عندما ابتدأ الكلام المــُنزّل يثبت بالكتابة والتّدوين، أمكن لكلمة قرآن أن تأخذ المعنى العام للكتاب المقدس بحسب المفهوم الذي نعرفه نحن، وقد أعطينا لكلمة قرآن هذا المعنى بطريقة مغايرة للعقيدة، لأنّ الكتاب المقدّس يقابل لفظة ” كتاب” في العربية، التي تعني تماماً النّص المكتوب » .
من خلال تعريف بلاشير لكلمة « قرآن »يُمكن أن نقف على ثلاث آراء رئيسةٍ له:
الأول: أنّ المعنى اللّغوي لكلمة « قرآن » هو التّلاوة.
الثّاني: أصل كلمة « قرآن »يعود إلى اللّغة السّريانية.
الثالث: تعليقه عن مسألة تدوين القرآن وكتابته على مسألة أخرى تتعلّق بتسمية القرآن بالكتاب.
فقوله بأنّ السور الأولى التي نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تشتمل على الأصل اللّغوي لاسم « القرآن » لعلّه يقصد هنا سورة العلق ( مع العلم أنّه لم يُعيّن الآيات أو حتى أسماء السور التي حملت الأصل اللّغوي الذي ذكر، وهذا ممّا يُعاب عليه) ذلك لأنّها: أوّل السور التي نزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا حملها للأصل اللّغوي « قرأ » لكلمة « قرآن » ، يقول الله تعالى : {اقرأ باسم ربّك الذي خلق} . وقد جاء في التّفسير الكبير: ” اقرأ القرآن إذ القراءة لا تستعمل إلاّ فيه ” .
وعلى هذا يكون ما ذهب إليه” بلاشير “موافقاً لهذه الآية من السورة وما جاء في تفسيرها.
وقوله بأنّ كلمة « قرآن » وردت بمعنى « التلاوة» فهذا صحيح، فالفعل ” قرأ ” و” تلا ” لهما المعنى نفسه:« القرآن في الأصل مصدر ( قرأت الشّيء قرآناً ) بمعنى جمعته، أو قرأت الكتاب قراءة أو قرءاناً بمعنى تلوته، ثمّ نقله العرف إلى المجموع المخصوص والمتلو المخصوص: وهو كتاب الله المنزل على محمد، ونقله أهل الأصول إلى القدر المشترك بين الكل والجزء، ثمّ نقله أهل الكلام إلى المدلول المقروء، وهو الكلام الأزلي القائم بذاته المــنافي للسكوت والآفة » .
لكن بلاشير لم يُحلنا إلى المصادر التي استند إليها في تعريفه هذا، وهذه سقطة لا يُعذر فيها.
أمّا ردّه لكلمة « قرآن » إلى الأصل السّرياني في قوله: « يمكن أن تكون هذه الكلمة مأخوذة عن اللّغة السّريانية » فهو قولّ مبنيٌ على الاحتمال ( يمكن ) بمعنى أنّه لم يصل إلى حدّ اليقين، كما أنّه لم يذكر المصادر التي استقى منها القول، ولا الدّليل الذي بنى عليه هذا الحكم …
ففرضاً ولو سلّمنا جدلاً، أنّ كلمة « قرآن » أصلها سرياني، ألا يكفي أنّها تعرّبت بتعريب العرب إيّاها، خاصّة وأنّ الكلام المعرّب كما ذكر أهل اللّغة ينقسم إلى قسمين :
الأول: لا يعتد بعجمته، وهو ما أدخل عليه لام التّعريف، نحو ” الدّيباج” و” الديوان” ..
الثاني: ما يُعتدّ بعجمته، وهو ما لم يدخل عليه لام التعريف كـــ “موسى” و”عيسى” .. .
وعليه: فإن أدرجنا كلمة « قرآن » ضمن الصّنف الأوّل لدخول لام التّعريف عليها تُصبح من الأسماء التي لا يُعتدّ بعجمتها. وفي القرآن الكريم دليلٌ على أصلها العربي، قوله تعالى: {إنّا جعلناه قرءاناً عربياً } ، وقوله : {ولو جعلناه قرءاناً أعجمياً لقالوا لولا فصّلت ءاياته ،ءاعجميٌ وعربيٌ } ، ودليل عربيّتها اشتقاقاتها وجذرها وأصلها اللّغوي واستعمالاتها المختلفة، ولو كانت كما زعم أعجمية لما وجدنا هذا التّوسع في الاستعمال، ولوجدناها تسمية منعزلة أو قليلة الاستعمال، ثمّ ما الذي يمنع – إن سلمنا بوجود نظير هذا اللّفظ في السّريانية- إن يكون السّريان أخذوه من العرب خاصّة وأنّهم اختلفوا في أصل السّريان، وبعضهم يعتبرهم من العرب، ومن لا يعتبرهم كذلك يؤكّد تأثرهم بالعرب الذين هاجروا إلى بلاد الشّام والعراق كالكنعانيين والفينيقيين والأنباط وغيرهم …، فهذا الأصل العربي أو التّأثر جدير بأن يكون وراء أخذهم من العرب، بخلاف العرب الذين لم يخرجوا من الجزيرة وعُرفوا بانعزالهم في صحرائهم وبيئتهم الخاصّة.
« فلو كان فيه لغة العجم لما كان عربياً محضاً بل عربياً وعجمياً، ولاتّخذ العرب ذلك حجة وقالوا نحن لا نعجز عن العربية، أمّا العجمية فنعجز عنها » ، وممّا يدّل على أصلها العربي ازدواجية ذكر كلمتي القرآن والقراءة في قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرّجيم } .
وعليه فإنّ لفظة « قرآن » لفظة عربية أصيلة ولامعنى لما ادّعاه بلاشير، لا سيما وأنّ قوله هذا _ مبنيٌ على الافتراض _ دون إحالته له لأي مصدرٍ يُدلّل صحة كلامه.
أمّا قوله:« عندما ابتدأ الكلام المنزّل يثبت بالكتابة والتدوين أمكن لكلمة قرآن أن تأخذ المعنى العام للكتاب المقدس بحسب المفهوم الذي نعرفه نحن وقد أعطينا لكلمة قرآن هذا المعنى بطريقة مغايرة للعقيدة، لأنّ الكتاب المقدس يقابل لفظة كتاب، التي تعني تماما النص المكتوب » الملاحظ من كلامه أنّ القرآن يسمى بــــ « الكتاب المقدس » وأنّ هذه التسمية إنّما أطلقت زمن تدوين الصحابة للوحي، والصّحيح أنّ مصدر تسميته بالكتاب هو الله سبحانه وتعالى، ولا علاقة للصّحابة بذلك كما قال” بلاشير “والدّليل قوله تعالى: {الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } .
ثمّ تدرّج بعد ذلك ” بلاشير”إلى الحديث عن الظروف الأولى التي تلقى فيها النبي محمد الوحي والذي دام قرابة 23 عاماً تخللته انقطاعات في البداية لم تمر دون أن تقلقه، وكيف كان يُمثّل القرآن انعكاساً لصعوبات مذللة وجهاد روحي وحربي.
كما أشاد بعد ذلك بجهود نولدكه في كتابه « تاريخ القرآن » بإعادته لترتيب النّص القرآني وفقاً لمراحل متعاقبة حدودها بحسب الأسلوب من جهة، وبحسب الموضوعات السياسية والدينية من جهة أخرى، وبيّن أيضاً المعايير الثلاث المعتمدة في إخراج هذا التوزيع.
ب. آراء بلاشير في مسألة جمع القرآن الكريم:
تطرّق ” بلاشير ” بمناسبة حديثه في الفصل الأول من كتابه ” القرآن ” إلى تكوين المصحف، والمراد به هاهنا ” جمع القرآن الكريم عبر مراحله الثّلاث، حيث كانت له آراء غريبة عجيبة في هذا الباب، فنراه يُصوّر بأنّ المسلمين لم يدركوا ضرورة تدوين القرآن لأنّهم لم يعرفوا من قبل فكرة نصٍ مكتوب، ويستغرب كونه حتى بعدما اهتدوا إلى الكتابة على أيدي المسيحييّن واليهود في المدينة لم يبدأوا بالتّدوين، يقول: « لا شكّ أنّ مفهوم النص المكتوب كان حاضراً في أذهان المهتدين المكيين الأول الذين لم يتجاوز عددهم المئة إبان الهجرة سنة 622م . ولقد أمدهم بذلك المفهوم من كانوا يعرفون من التوراة التي كانت بين أيدي المسيحييّن واليهود في المدينة، أو أناجيل نصارى نجران والحبشة الذين كانوا على علاقات تجارية بهم، ومع ذلك فإنّ أنصار محمد لم يشعروا مباشرة بضرورة تدوين الرّسالة الجديدة، و يزيد هذا الأمر غرابة أنّ تلك الرّسالة وهي الأولى المتلقاة في اللغة العربية، تعلن عن ذاتها أنّها آية من الله ( السور : فصلت 3 ، والواقعة 80 ، التكوير 19 ) » كما رأى أنّ:
« فكرة تدوين مقاطع الوحي الهامّة التي نزلت في السنوات السالفة على مواد خشنة من الجلود واللّخاف لم تنشأ إلاّ بعد إقامة محمد في المدينة، وعلى أنّ الحاجة للتّدوين لم تظهر فيما يبدو إلاّ بين الحين والآخر، وربّما كانت تنشأ عن تحمس شخصي لبعض نصوصٍ تشتمل على أدعية أو أحكام شرعية كانوا يرونها هامّة، ولقد شجّع النبي حماسة التّدوين هذه، ولكنه لم يجعلها واجبة، وعلى أي حال فإنّ هذا التدوين كان جزئيا ومثارا للاختلاف، كما كان متخلفاً على الأخص، بسبب عدم ثبات المواد والطرائق المستعملة لذلك التدوين » .
بعد استقراء قول بلاشير هذا يمكن أن نقف على ثلاث آراء رئيسة :
الأول: أنّ تدوين القرآن لم يبدأ منذ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما بعد إقامته في المدينة « وأنّه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة القرآن على العهد المكي، وأنّه اعتمد هو وأصحابه على الحفظ الغيبي لنصوص القرآن» .
الثاني: بداية تدوين القرآن نشأت عن تحمس شخصي لبعض نصوص القرآن .
الثالث: أنّ هذا التدوين كان جزئيا ومثيرا للاختلاف، كما كان مختلفا على الأخص بسبب عدم ثبات المواد المستعملة لذلك التدوين.
قبل الولوج إلى مناقشة والرّد على كلام بلاشير هذا، لابد من طرح التساؤل الآتي: بِمَ كانت تدار أمور الحياة العامة إذ لم يكن هناك دستور مدوّن يحكمها؟ قد يقول قائل : أنّ النبي عليه الصلاة والسلام كافٍ بإقامة ذلك، لكن هذا غير صحيح لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان من مهامه هداية الأمة وتربيتها على القرآن، ويظهر ذلك في حرصه وهمّه بجمع كلام الله، لكن المستشرقين هذا دأبهم التّركيز على مسألة عدم الكتابة والتدوين في عهده صلى الله عليه وسلم .
إنّ ادّعاء بلاشير أنّ الكتابة لم تبدأ إلاّ بعد إقامة النبي صلى الله عليهوسلمت في المدينة ادّعاءٌ باطلٌ فبعض السور المكية ذاتها فيها إشارات إلى كتابته في مكة قوله تعالى : {كلا إنّها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة } . وقوله تعالى أيضاً : {قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } .
أمّا ما قاله من أنّ نشأة الكتابة كانت ناتجة عن تحمس شخصي فهذا غير صحيح، لأنّه لوكان تدوين القرآن ناتج عمّا قال لكان الذي بين أيدينا الآن كلّه أدعية وآيات تشريعية، فما الذي يبرر قوله هذا ؟
وممّا ينفي أيضاً قوله بـــ : ” عدم إلزام النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من صحابته تدوين القرآن ” ما رواه أبو داوود السجستاني عن خارجة بن زيد أنّه قال : «دخل نفر على زيد ابن ثابت فقالوا : حدّثنا بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ماذا أحدثكم؟ كنت جار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت إذا نزل الوحي أرسل إليّ فكتبت الوحي » .
أمّا بالنسبة لقوله ” بعدم ثبات المواد المستعملة للتدوين ” بمعنى_ تعدد المواد التي كُتِبَ عليها الوحي _ ففي ذلك العهد لم تكن هناك وسائل متوفرة يكتبون عليها ويوفّرون بها الوقت والجهد ، وهذا ما حاول المستشرقون التأكيد عليها بوقوع تحريف وضياع لأجزاء من القرآن بسبب عدم ثبات المواد .
كما سعى ” بلاشير ” لإيجاد تفسير لسبب عدم جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هذا التهرب من الموافقة على الكتابة كان يخمد كلّ محاولة للتفسير » .
ثمّ تدرّج بعد ذلك ” بلاشير ” إلى الحديث عن المرحلة الثانية من الجمع ألا وهي ” الجمع في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، يقول: « أمّا المرحلة الثّانية فتبتدئ مع وفاة النبي، وقد وجد الخليفة أبو بكر نفسه أمام عالم هائج وعليه أن يقوم بدورٍ كبير من قمعٍ لارتدادٍ خطير إلى الوثنية في الجزيرة » .
صحيح ما اعتبره بلاشير من أنّ جمع أبي بكر يمثّل المرحلة الثّانية من منطلق كتابة القرآن في عهد النبي صلى اللهعليه وسلم _ على مواد متفرّقة _، وصحيح قوله بأنّ جمع القرآن في عهد أبي بكر كان سببه الخوف من ضياع القرآن بموت الحفاظ في حروب الرّدة .
وانتقل إلى الحديث عن الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه ، واعتبر أنّ مصحف أبي بكر عُدَّ الأساس لهذا الجمع، وهذا صحيح من جهة أنّ هذه المرحلة لم تكن مستقلة بذاتها ، بل كانت مرتبطة الصّلة بسابقاتها . يقول: « وقد تمت خطوة حاسمة بعد عشرين عاماً إذ أقبلوا في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (644-656) على جمع نصّ جديد أقيم على أساس أوسع، ومن وجه ما أشمل حصراً كان المنطلق مصحف أبي بكر فضموا إليه مقطوعات مبعثرة أو محفوظة غيباً » .
لكن بلاشير وكغيره من المستشرقين عدّ قرار عثمان رضي الله عنه بإحراق الصحف تدنيساً للمقدّسات، يقول:« أنّ الرغبة في إحلال نص ثابت ظهرت بتدبير كاد يكون هتكاً للقدسيّات: وهو اتلاف جميع المصاحف التي سجّل فيها الأتقياء الموحيات التي جمعت على لسان محمد نفسه وفي حياته » .
ممّا لا ريب فيه أنّ أمر عثمان رضي الله عنه بحرق جميع المصاحف الأخرى القصد منه توحيد الأمة على قراءة واحدة متواترة، خاصّة وأنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم قد حوت مصاحفهم على ما ليس بقرآن كدعاء القنوت وبعض تفسيراته صلى الله عليه وسلم، وقد رأى رضي الله عنه أنّ هذا سيزيد من بؤرة الخلاف بين المسلمين فاستشار الصحابة رضي الله عنهم وأحرق الصحف ووحّد الأمة على مصحف واحد ، ولم يقف بلاشير عند هذا فحسب بل ذهب إلى القول ببدائية الخط الذي استعمله النّاسخون في عهد عثمان، يقول:« إنّ مصحف عثمان بقي غير مكتمل في جوانب كثيرة منه فإنّ النّمط الخطي الذي استعمله الناسخون لم يزل بدائياً، ثمّ إنّ استنساخ المصاحف الخمسة الأساسية الموجودة في العواصم الإسلامية يثير مسألة خطيرة » . يُشير بلاشير هنا إلى مسألة خلو خط مصحف عثمان رضي الله عنه من نقطي الإعجام والإعراب ، هذا لأنّ ما عرف عنهم آنذاك هو قوة حافظتهم و سليقتهم العربية التي لا تحتاج لإعجام أو إعراب ،إلاّ بعد ظهور اللّحن باختلاط العرب بالعجم ظهرت الحاجة لقواعد تحفظ الألسنة، كما حاول خلق صراع وهمي بين علي وعثمان رضي الله عنهم في مسألة المصحف بموقف الشيعة الرافض لمصحف عثمان، يقول: « وقد تضخمت مسألة توحيد المصحف في سنة 661م لدى مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب صهر النبي محمد وابن عمه، فإنّ الاجتهادات المتعلقة بشرعية الخلافة التي أحدثت حركة انشقاق ( الشيعة )، قد أثارت انفعالات دينية على تعديل نصوص قرآنية قديمة كالنص الذي ينسب إلى ابن مسعود خادم النبي، وهو نص يختلف في عدة نقاط عن مصحف عثمان » .
واختتم بلاشير حديثه عن الجمع بالمرحلة الثالثة منه والتي كانت على يد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وما أضافه من تحسينات على الخط، ثمّ أردف الحديث عن القراءات القرآنية وكيف حافظت على التلاوة السليمة بادئ ذي بدئ، بحيث أنّها مثّلت فسحة لجميع امكانات النّص القرآني ، لكن سرعان ما تحولت لتهديد لقدسية المصحف، يقول : « ولقد أدى التساهل إلى ما كان يجب أن ينتظر منه وهو أن يستخدمه التأويل العقلاني أو الشيعي، ولكن سرعان ما تراءى للفقهاء والمتكلمين الشديدي الارتباط بمذهب السلطة ما تقتضيه تلك القراءات المختلفة من التّبعات وما يمكن أن تقود إليه من التجاوز فكشفوا وأعلنوا بحق عمّا فيها من تهديد لقدسية المصحف ومنبع للاختلافات العقدية والتشريعية » . فذهب علماء بغداد في ق10 في بغداد من بينهم ابن شنبوذ حيث ادّعى بأنّ له حقاً بتسوية الروايات المختلفة ذات المصدر الشيعي في نص عثمان، وما وصلوا إليه من إقرار القراءات السبع القانونية وما رافقها من مقاومات فردية من الصحابة كابن مسعود الذي أحس بالجور لأنّ قراءاتهم أهملت ولم تعتمد أساساً في مصحف عثمان، وما أخذته هذه المقاومات من استغلال للشيعة والخوارج لأهدافهم الخاصة في عهد علي وبداية الحكم الأموي، وكيف أخذت فرضية التحريف والحذف تظهر شيئا فشيئا لا سيما حذف الخوارج لسورة يوسفالتي رفضوا أن يعتبروها نصا قرآنيا صحيحا، وكذا حذف الشيعة العديد من الآيات من سورتي الحجر والنور التي تثبت حق علي في الخلافة ، كما بيّن موقف الإمامية البعيد عن الغلو في هذه الهجمات.
وأشار بلاشير إلى مسألة الترتيب الهبوطي للمصحف من أطول سورة إلى أقصرها، وما حواه مصحف عثمان من خللٍ في الترتيب لأنّه وبحسب زعمه جعل السور المكية _أكثرها القصيرة والمتوسطة_ في نهاية المصحف، وأمّا السور المدنية في بداية المصحف ، وهذا ما يجعلنا _ على حسبه_ نقرأ القرآن بتاريخ معكوس، كما قال بأنّ تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزء لم يكن إلاّ لمجرّدِ الباعث العملي وتسهيلاً لتلاوته بمناسبة الاحتفالات الدينية.
كما طرح مسألة مهمّة في تتابع السّور، هل نظام ترتيبها توقيفيٌ أم اجتهاديٌ ؟ وفي النّهاية رجّح النظرية التي تؤكد أنّها إلهامٌ من الله، ثمّ تحدّث عن مواضيع القرآن في الفترتي المكيّة والمدنيّة، وتقسيم السّور لآيات، وتشبيهه لقوافيها بسجع الكهّان قصد التأثير على السامعين، ومثّل ذلك بـــــ” سورة الكافرون، والعلق، والناس ” وكيف أنّ اسم السورة يستخرج من أوّل الآية منها، أو من قصّة موسّعة، أو عنصر راسخ، أو إشارة عرضية فيها كما في سورة البقرة .
وفي آخر ما قاله في هذا الفصل ما أحدثه القرآن الكريم من بلبلة فكرية لدى علماء الغرب وذلك لما تميّز به من الغموض والأسلوب الإيجازي الشّائك الذي يغلب عليه التلميحات، والشّروحات والقصص التي يصعب معرفة ترابطها ، وأيضاً ذكر ما يُعانيه الغير المطلع على العربية من خيباتٍ
، وفي هذا يُشير بلاشير إلى ضرورة العثور على الرّكيزة التّاريخيّة من أجل استيعاب القرآن وقراءته قراءة سليمة، وبضرورة التّقيّد بالتّرتيب الذي اقترحه ” نولدكه ” وأخذ به بعض المترجمين،والذي يجعل قراءة المصحف قراءة سهلة وممتعة.
وختاماً أقول:
– إنّ بلاشير من المستشرقين الفرنسيين الذين أولوا عناية بالدرس القرآني، ويظهر ذلك من خلال إفراده التّأليف في موضوعاته.
– إنّ المستشرق يُحكم عليه من خلال كتبهِ لا من خلال مدرستهِ، لذلك يُمكنني القول بأنّ كتاب “القرآن” لبلاشير يُعدّ تكملة لسلسلة افتراءاته عن الإسلام عموماً، والقرآن الكريم على وجه الخصوص؛ وهذا الكتاب لا يخلو من العيوب المنهجية المعهودة في كتب المستشرقينكالتشكيك، والاسقاط، والاغفال، وتحريفِ المصادر… إلخ، والتي وإن أخفوها بعباراتٍ ملتويّة، فقد كشف عنها الباحثون، وأبانوا الهدف من ورائها.
– إنّ افتراءات بلاشير في كتابه _مجتمعةً كانت أو مُتفرّقةً_ تُنمي عن غرضٍ عدائي مُتوارثٍ بين أبناء المدرسة الفرنسية، والذين حجبت الخلفية الاستعمارية عنهم الحياديّة والموضوعيّة في التّعامل مع القرآن الكريم.
– أوصي بضرورة ترجمة ما يقوم به الباحثون العرب في الدّراسات الاستشراقية، وخاصّة ما يتعلّق بالقرآن الكريم إلى لغةِ تلك الدّراسة حتى يسهل على مستشرقي تلك البلدان الاطّلاع عليها؛ كما هو الحال عندما تُترجم كتاباتهم إلى اللّغة العربية، وكذا ضرورة الاستعانة بأساتذة العرب في الغرب للتّعرفِ على جديد ما يُسهم بهِ المستشرقون المــُعاصرون في الدّراسات القرآنية.
وفي الأخير أسأل الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وُفّقت في إماطة اللّثام عن بعض ما افتراه بلاشير في بنية المصحف وتكوينه خدمةً لدين الله تعالى.

4. قائمة المصادر والمراجع:

1. آراء المستشرق ريجيس بلاشير في جمع القرآن الكريم وترتيب سوره، عبد الهادي زويكري، رسالة ماجستير، قسم العقيدة، جامعة الجزائر، 2016مــ.
2. تاريخ الدّراسات العربية في فرنسا، محمود المقداد، سلسلة عالم المعرفة، العدد167، 1978مــ.
3. ترجمة النّص العربي وتأويله عند بلاشير، حورية الخمليشي، الطبعة1، الدّار العربيّة للعلوم، بيروت، 2010مــ.
4. التّفسير الكبير، محمد فخر الدّين الرّازي، الطبعة1، دار الفكر، 1401هــ/1981مــ، ج32.
5. طبقات المستشرقين، عبد الحميد صالح حميدان، مكتبة مدبولي.
6. القرآن نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره، ريجيس بلاشير، ترجمة: رضا سعادة، الطبعة1، دار الكتاب اللّبناني، 1974مــ.
7. الكليّات، أيوب بن موسى الحسيني الكفوي، الطبعة2، مؤسسة الرّسالة، بيروت، 1419هــ/1998مــ.
8. المستشرقون، نجيب العقيقي، الطبعة3، دار المعارف، مصر، 1964مــ، ج1.
9. المستصفى، محمد بم محمد الغزالي، الطبعة1، المطبعة الأميرية، مصر، 1322هـ، ج1.
10. المصاحف، عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، الطبعة1، دار البشائر، بيروت، 1423هــ/2006مــ.
11. المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، أبي منصور الجواليقي، الطبعة1، دار القلم، دمشق، 1410هــ/1990مــ.
12. الموسوعة العربية العالمية، نخبة من العلماء والخبراء، الطبعة 2، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، 1419هـــ/1999مــ، ج17.
13. موسوعة المستشرقين، عبد الرحمن بدوي، الطبعة3، دار العلم للملايين، بيروت، 1993مــ.

Get real time updates directly on you device, subscribe now.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.